تشعر أحيانا بأن ثمة موقفا مربكا من مسألة التراث الشفهي الشعبي شعرا وحكايات وتفاصيل، موقف غير مفهوم، مزدوج وغائم، فكمية الاتهامات ضده مكررة وبنفس الشعارات والحملات وإن تغير الزمن وتبدلت الوسائل.
فحين بدأ المهتمون بالتراث الشعبي بعد منتصف القرن الفائت جمعه شعرا وقصائد وسيرا في كتب، كان الاتهام الأول الذي لاح بالأفق الضيق أن هذا الدور الثقافي يحرض على العنصرية ويحض على القبلية ويسبب الحزازات الاجتماعية ويكرس الجهويات، خصوصا وأن المنطقة سياسيا بعد الحرب العالمية الثانية بدأت في الدخول إلى نمط الدولة التي أدت إلى انحسار القوى العسكرية الاستعمارية، وحين بدأت البرامج الإذاعية التراثية في الإذاعات الخليجية بداية الستينيات مع بداية تشكل المؤسسات والدوائر الرسمية ومنها الأجهزة الإعلامية التي كانت تحرص على إيراد القصص والقصائد واستضافة الرواة والشعراء؛ شخصت الاتهامات بالعنصرية والمناطقية والقبلية مرة أخرى، وحين بدأ التلفزيون الرسمي في دول الخليج بداية السبعينيات الميلادية بث بعض البرامج الشعبية والمسلسلات البدوية عاد نفس الاتهام لينهض من جديد مثل جناية. ولما جاءت الصفحات الشعرية الشعبية في الصحف بداية الثمانينات كانت أولى الاتهامات وأقساها أنها تروج لثقافة متخلفة وقديمة تجاوزتها الدولة العصرية، ولما تحولت هذه الصفحات إلى مجلات شعبية في التسعينيات ردد البعض ذات التهمة وربطها بنزعات قبلية وعنصرية، وكذلك انسحب الأمر على القنوات الفضائية ذات الطرح الشعبي. الغريب أن كل أمم الأرض وشعوب العالم تنظر بإجلال وقدسية لتراثها وموروثها وتحمية وتحافظ عليه وتنشئ له المطبوعات ومؤسسات الدراسات البحثية والفلكلورية، في حين أننا لا نجيد سوى اتهامه ومحاولة تحطيمه وحشوه بالسيئ والعنصري والقبلي والضيق من الرؤى.
إننا نتهم أنفسنا ونتهم تاريخنا وسلوكنا وممارستنا، فالذي لا ينظر إلى موروثه باحترام لا يمكنه أن ينظر إلى نفسه، والذين يجيدون توجيه الاتهامات يعجزون عن إيراد الدلائل، كأننا أمام كليشه.. أزمة هوية عميقة وتناقضات.. أعتقد أنه كان من المفترض حسم أسئلتها منذ زمن.