أنا لست جدتي، وإن كنت أحبها، ولن تناسبني حياتها لو خضتها، لأنني، ككل واحد يقرأ هذا المقال ـ نفسي فقط، وعلينا ألا نجعل أنفسنا نسخا مكررة، أو نفرض عليها أن تكون مثلما كان السابقون

تربطني بجدتي سعدية بنت مفرح رحمها الله علاقة غير اعتيادية، وهذا ربما ما تعتقده أغلب الحفيدات مع جداتهن. وحينما كانت تسترسل في حديثها عن الزمن الذي عاصرته، أستسلم لصور تجسد ذلك الماضي بوميض زاه متتابع. فتمر صور مختلفة لحياة بسيطة في مكوناتها ومحيطها وإنسانها، وحين أمتدح تلك الحياة وأخبرها أنني أتمنى لو كنت أعيش فيها, تعارضني في رغبتي، وتجيب بحياد تتقنه بلهجتها العسيرية: الله يسقيها من مدّه وكان!.
يحب الإنسان ماضيه ويقدس ذكرياته وينحني لها حينما تمر على خياله بحب وحنين، ليس لأنها كانت جيدة، بل قد تكون العكس, ولكن لأنها مضت، وضمن سلامته من خدشها لمشاعره، وآمن أن ضررها وألمها وقسوتها لن تمسه مُجددا بسوء! هذا الحنين الدائم للماضي من أجدادنا وآبائنا كوّن لدى الجيل الذي يليه أن تلك الأيام وأسلوب المعيشة فيها هي الأفضل والأكمل، وأن الحياة فقدت نضارتها وجمالها لأنها أصبحت ذات إيقاع أسرع في كل جانب. كنت أسأل جدتي، وما زلت أطرح التساؤل هذا على الكثير ممن عاصر أسلوب حياة أخرى كانت هنا في عسير قبل أكثر من أربعين عامًا، لو عادت تلك الحياة بكافة تفاصيلها ومكوناتها الاجتماعية والمادية، وكان لك الخيار في العيش فيها أو في حياتنا الحالية أيها تختار؟ جدتي كانت تُجيب مُجددًا إجابتها الأثيرة: الله يسقيها مدّه, وكان!، ثم تشرح أن الحياة الآن أسهل، وقد نالها من التعب ما لا تتخيل أنها ستعود إليه, كأن تصحو قبل الفجر تُحضر الحطب أكوامًا على ظهرها، ثم مع خيوط الصباح الأولى تخرج هي وعائلتها كاملة، والعوائل الأخرى في القرية الصغيرة المرتاحة على سفوح الجبال البادرة الصعبة، تخرج تباشر الحياة عملًا في الحقل وكدحًا في الدروب في ظروف صعبة ووسائل بدائية تساهم بها في مساعدة عائلتها على أكل قوتهم اليومي، وقد تكون تحمل في أحشائها طفلًا ربما تفقده المرأة في ذلك الزمن مع تعبها الدائم أو تموت دونه.
إنسان ذلك الزمان كما صورته لنا قصص الأجداد يعيش قوة اجتماعية في الحضور والتعاون والتزاور، دائم الرضا والابتسام لم يُجعل بينه وبين خالقه وسائط من البشر تمنعه من فتات المباهج القليلة التي يلتقطها بفرح ويملأ بها روحه ومن حوله. وإن جاع تقاسم رغيف الخبز مع جاره وبهيمته دون تعال وأنانية. لا يرى بينه وبين تلك التي تحمل فوق كاهلها العبء الأكبر من المشقة والتعب فرقًا إلا مزيدا من الرحمة يحمله قلبها وكثيراً من الجمال في تفاصيلها. هذه الجنة القديمة ماتت جدتي وهي مازالت ترفض العودة إليها وتخبرني أن حياتنا أفضل وأكثر راحة وفرصا، فلماذا –وهي سيدة ذلك الزمان- لم ترد العودة إليه؟ ولماذا أرى اليوم الكثير يتكئ على حائط مبكى الماضي ينوح عليه ويرجو أن يعود؟ والأنكى, لماذا يرمي امرأة هذا الزمان بالتقصير والتخاذل وأنها كانت السبب في تراجع حظها من الحياة الطبيعية التي (كانت)؟
يغيب عن هؤلاء البكائين واللوامين - أو يغيّبون هذا عمدًا لأنهم استطابوا البقاء قرب حائط مبكى الماضي وافتراض جدل مصطنع- يغيب عنهم أنه إذا كان هناك فرق بين امرأة الماضي وبين امرأة اليوم في أي مجال فإن للمجتمع والبيئة التي تعيش فيها دورا كبيرا ورئيسيا. لم توجد المرأة هناك وحدها ولم تكن ما كانت عليه بإرادتها المحضة والمطلقة, وكذلك مع المرأة المعاصرة يحكمها سياق وُجدت فيه فتعايشت معه بخيره وشره، وخضعت لمعطياته. ولو أردنا أن نقيس ذلك على الرجال لوجدنا أن رجل الأمس يختلف عن رجل اليوم كثيرًا في ذات الجوانب التي يمدحها أو يعيبها البعض.
من يُلغي دور المرأة المعاصرة ولو كان متواضعًا وخجولًا، ويقفز من خلف ذلك الحائط يتحدث عن زمن الجدات وفضائلهن, فهو يتحدث بجهل وبميزان أعوج يقارن فيه زمنين مختلفين ومكوّنا اجتماعيا مختلفا سببته طبيعة الله في التغيير المستمر في الكون، وفرضه الرجال على حياتهم ومن معهم قبل أي أحد آخر عندما تنازلوا عن طبائع أجدادهم القديمة وأسلموا فطرتهم السليمة لسواد الصحوة وعززوها في نسيج حياتهم. ثم يطالبون الآن المرأة أن تنهض من هذه القيود وحدها وقد أحكموا وثاقها على رقابهم معًا. من يقتحم تيارًا جارفًا وحده إما أن يغرق أو ينجو وقد خسر الكثير، والنجاة ستكون خلفها ذراع قوية تسندها وتقيم عثرتها إن جرفها ماء المقاومة لضفة الخسارة لحظة ضعف!
جداتنا كن قادة ذلك الزمان بما منحه لهن، ونساء اليوم كذلك سيدات الفرص التي يمنحها لهن هذا الزمن. في الماضي تعمل في الحقل وترعى أغنامها وتسقي دلاءها وترعى بيتها، واليوم تعمل في المحل والمدرسة والمشفى والمصنع وغيرها وترعى بيتها وفوقه تحمل وحدها الوزر الذي حملها إياه المجتمع بانسياقه الكامل خلف من شوهه لأنها انزوت خجولة أو غطت وجهها بخرقة سوداء أو تنازلت عن حق ولدت وهو منزوع منها وظنته الصواب حتى أدركت الوعي متأخرة.
من يمسك نايًا ويطلق لحنًا ناعمًا يطرب له الكون، لا يستوي مع من ينفخ في بوق اللوم والاتهام بضع كلمات براقة يصفق له فريق البكائين. وينبغي ألا نكون فعلًا كما قال عبدالله القصيمي: بأن كل الأمم تلد أجيالا جديدة، إلا نحن العرب نلد آباءنا وأجدادنا. فليس لنا من حياة أجدادنا إلا التذكر؛ لأن الماضي لن يعود والمستقبل لن ينتظرنا ونحن نتنهد حسرة عليه. أنا لست جدتي وإن كنت أحبها ولن تناسبني حياتها لو خضتها، لأنني ـ ككل واحد يقرأ هذا المقال الآن ـ نفسي فقط, وعلينا ألا نجعل أنفسنا نسخا مكررة من آخرين، أو نفرض عليها أن تكون مثلما كان السابقون.