المخاوف في اليمن ليست من إغلاق المضيق لكن من إمكانية استهداف السُفن بعمليات إرهابية، الأمر الذي يقتضي اتخاذ إجراءات دولية وإقليمية تقودها مصر ودول الخليج لحماية مصالحها وأمنها القومي
بعد اجتماع الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي بنظيره الإيراني جواد ظريف على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر الماضي، لاح بريق أمل في أن تتغير سياسات طهران تجاه المنطقة، لكن بعد ذلك حدثت تطورات كثيرة سلبية تجاوزت سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء ووصلت لدرجة الهيمنة على مضيق باب المندب، مما يُشكل خطورة على مصالح السعودية ودول الخليج التي تعبر حاويات نفطها القناة. وهو ما يشكل خطرا على مصر أيضا، لمسؤوليتها بتأمين السفن العابرة لقناة السويس فهي أهمّ مصادر الدخل القومي.
بالطبع هناك اتفاقيات دولية تحكم العبور بالمضيق الذي يُشكّل مصلحة دولية، لكننا بصدد تنظيم أيديولوجي تستحيل مساءلته، ودولة هشّة تقف على تخوم الصوملة، فالمخاوف ليست بإغلاق المضيق لكن بإمكانية استهداف السُفن بعمليات إرهابية، الأمر الذي يقتضي اتخاذ إجراءات دولية، وأخرى إقليمية تقودها مصر والسعودية ودول الخليج، لحماية مصالحها وأمنها القومي.
بعد ذلك جاء اجتماع جدّة لوزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي مستهل أكتوبر الجاري وصدر عنه تحذير جماعي يقول إن دول المجلس لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التدخلات الخارجية الفئوية في اليمن، لأن أمن اليمن ودول المجلس يعتبر كلاً لا يتجزأ.
وهكذا لم يعد الأمر يحتمل تكهنات وأدلة بشأن مساعي طهران لتوجيه الحوثيين لتمضي على طريق العراق، فتدفع برئيسٍ وحكومةٍ تستنسخ تجربة المالكي لإغراق اليمن بصراعات طائفية وقبلية، تتجاوز المبادرة الخليجية، الأمر الذي سيفتح أبواب الجحيم أمام تنظيمات القاعدة وداعش والقبائل المُسلحة بمواجهة الحوثيين، ويضع المنظومة الخليجية، ومعها مصر حيال مواجهات، وبالأحرى حروب بالوكالة لإيران بعدة دول بالمنطقة كاليمن والعراق وسورية، تمضي بالتوازي مع عمليات التحالف الدولي العسكرية ضد داعش وامتداداته باليمن جنوبًا، والشام شمالاً وليبيا غربًا، ليتحول الأمر لحرب عالمية بمواصفات لحظة أندلسية.
لسنا بحاجة لـنوسترادموس لندرك بيقين أن اليمن لن يكون سعيدًا، ولا عنب فيه، والشام لن تستمر هكذا كثيرًا؛ مسرحًا لاقتتال التنظيمات الإرهابية، وقوات بشار الأسد، خاصة بعدما دخلت قوات التحالف الدولي المعادلة لتُصبح طرفًا فيها، ويُدرك ملالي طهران أن حليفهم لن يستقر عرشه مهما دعمته، ومعها ذراعها حزب الله فلم يعد هناك في بساتينه بلح، بل دماء غزيرة لن تجف قبل حروب ستُفضي لصفقات وترضيات للملالي وقيصر روسيا، فهذه هي السياسة كما خيرناها.
ضاعت أعمارنا سدى ونحن نقرأ ونستمع لمحللينا السياسيين وخطباء منابرنا يؤكدون بثقة أن شمس أميركا آفلة لا محالة، ووصلت غواية التفكير بالتمني لمفكرين غربيين منهم مثلا: أستاذ الجغرافيا السياسية هالفورد ماكيندر الذي يزعم أن القوة الكبرى التي تسيطر على أوراسيا، ستتحكم في الجزيرة العالمية، وبالتالي ستحكم العالم بأسره، وأصبحت أوراسيا الجائزة الجيوسياسية الكبرى، وزعم أن الصين وروسيا وإيران يسعون لبسط نفوذهم وتحدي مصالح أميركا، بمحاولات بطيئة لكن دؤوبة، للهيمنة على أوراسيا وتقزيم نفوذ واشنطن.
لكن هذه الرؤية تجاهلت واقعًا ترسخه حسابات موازين القوى الجيوسياسية، فما زالت لأميركا اليد العليا على كل من الصين وإيران وروسيا، فربما تتراجع عن سُدّة عرشها الذي تبوأته خلال سنوات القطب الواحد، لكن قوتها حتى الآن لا تُبارى، فما زالت الثروة الأميركية والتفوق التكنولوجي بعيدي المنال عن روسيا والصين وإيران، حتى وضعها الاقتصادي عززته موارد الغاز الجديدة الضخمة للحفاظ على نفوذها السياسي والعسكري دوليًّا.
وباستقراء الواقع سنكتشف أن واشنطن تتمتع بقدرة على حشد الحلفاء والتأثير الدولي لتصبح عملاقًا ناعمًا، وتخلص دراسة أجراها أستاذ السياسة بريت أشلي ليدز لأحقية تباهي أميركا بشراكاتها العسكرية مع أكثر من ستين دولة، بينما يقتصر حلفاء روسيا على ثمانية، وليس للصين سوى حليفة وحيدة خارج التاريخ (كوريا الشمالية) لتتضح بذلك حقائق السياسة الموجعة.
عودا على بدء، وكما أسلفت فاليمن والشام والعراق وليبيا وغيرها تشهد لحظة أندلسية يتقاتل فيها ملوك الطوائف وبارونات الحروب بالوكالة والدواعش وكأن التاريخ يُعيد نفسه على نحو ما حين تشتت شمل ملوك الطوائف بالأندلس، ووصل عددهم لنحو 21 دويلة، أنقذهم ابن تاشفين مرارًا وحين استعرت بينهم الحروب قرر توحيد تلك الدويلات، ونفى المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية، بمدينة اغمات بضواحي مراكش، وكان ملكًا حكيمًا، وشاعرًا أديبًا، لينتهي أسيرًا منفيًا.
وبعد قرون وقفت أمام ضريحه وفشلت في مقاومة دمعة حرى حين قرأت مرثيته، التي كتبها وأوصى بتدوينها على شاهد قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي.. حقا ظفرت بأشلاء ابن عبادِ؟
وما أشبه الليلة بالبارحة.