بقدر ما يعطي الوطن مواطنيه، بقدر ما ينتظر منهم من عطاء يوازيه أو يزيد عليه، وبقدر ما يعطي المواطن وطنه، بقدر ما ينتظر من وطنه عطاءً يوازي عطاءه أو يزيد. وهكذا تحول مفهوم العطاء من مفهوم ميتافيزيقي غامض، لمفهوم محدد واضح

كانت الناس قبل نشوء الأوطان، تعيش وسط قبائل (قاطني الصحاري، وممتهني مهنة الرعي) وشعوب (قاطني الشعاب وممتهني مهنة الزراعة)، يحكمهم الانتماء للجماعة والولاء المقابل لها. أي أن مفهوم الوطنية بالنسبة لهم كان ضبابياً لم يتحدد بعد، حيث قطباه تمحورا حول الانتماء والولاء المقابل له. وكانت الولاءات آنذاك، تتحرك صعوداً من العائلة للفخذ ثم القبيلة بالنسبة لأفراد القبائل، وللعائلة ثم قاطني الشعب (الوادي) بالنسبة لقاطني الشعاب.
وكان ولاء الأفراد آنذاك لقبائلهم وشعبانهم، ناتجاً عمّا تقدمه القبائل والشعاب لهم من حماية لحياتهم وحفظ لأملاكهم وطرق مزاولة معيشتهم اليومية. فكان أي فرد من أفراد القبيلة أو الشعب مستعد أن يعبر عن ولائه في خوض الحروب دفاعاً عن قومه، وبدون مساءلةٍ أو تردد، بغض النظر عن عدالة حرب قومه أو عدم عدالتها. كما عبر عن ذلك شاعرهم وما أنا إلا من غزية إن غزت... غزوت، وإن ترشد غزية أرشد. وكانت تحكم القبائل والشعاب أعراف خطط لها أن تخدم أفرادها كل على حسب موقعه من الجماعة، لا عطائه لها، حيث شهادة الانتماء من عدمها تُورث في أعرافهم، كما تُورث الإبل والنعاج من الوالد لولده.
ثم نشأت الدول والإمبراطوريات القديمة التي كانت تجمع قبائل وشعوب مختلفة تحت رايتها وتحتل مساحات شاسعة من الأراضي مترامية الأطراف. وكانت الدولة تدار بواسطة أسرة أو أسر مالكة تعتمد في حكمها وسيطرتها على باقي شعوبها بواسطة شعب أو عرق محدد قريب منها، يسمى بعصبة الدولة. وكانت تفرض نفسها على مواطنيها بحكم الأمر الواقع وزرع الأمن داخل حدودها بقدر المستطاع؛ مقابل الضرائب التي تفرضها على شعبها المنتج، والتي من خلاله تدير نفسها وتؤمن جيوشها إذا احتاجت لخوض معارك دفاعية أو توسعية. ولم يكن مفهوم المواطنة في ظل الدول والإمبراطوريات القديمة قد برز كما نعرفه الآن، بالرغم من سيادة القانون في هذه الدول والإمبراطوريات، والتي هي الميزة الرئيسية التي يمكن أن ينعم بها المواطن، في مقابل دفعه للضرائب، والتي قد تكون تعسفية في كثير من الأحيان.
ولم ينشأ مصطلح المواطنة كما نعرفه الآن إلا مع نشوء الأوطان الحديثة، في القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا، ككيانات سياسية ذات حدود محددة تفصلها عن غيرها من أوطان تحيط بها، وتحددت بها هوية قاطنيها، عن غيرهم. ومنذ نشأت الأوطان ومفهوم الوطنية يتطور وينضج تباعاً لنضوج الإنسان، واستفادته من تجاربه السابقة خيرها وشرها.
فأول ما نشأ مفهوم الوطنية مع نشأة الدولة الوطنية الحديثة، نشأ كمفهومً ميتافيزيقي غامض، مثله مثل أي مفهوم جديد يفترض أنه يعبر عن حالة جديدة، ولكن مخرجاته لم تتشكل وتتضح بعد، وعليه تم ربطه بمبدأ مماثل كان قائماً ومتداولاً في حالة ما قبلها. حيث فهمت الوطنية، كما كانت تفهم في أطوار التجمعات البشرية السابقة، وهو توفير الأمن ومنح الهوية؛ مقابل الولاء الكامل للوطن. ولذلك تم تغليفه بكثير من الأدبيات والمفاهيم الحماسية الإنشائية. كما قال الشاعر بلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن بخلوا علي كرام.
ولذلك تم استغلال مفهوم الوطنية من قبل الدكتاتوريات والحكومات الفاشية والتسلطية، خاصة مع ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، ذات التقنية العالية؛ لتجييش الشعوب وجعلها وقودا لإشعال حروبها ومشاريعها التوسعية المرتبطة بأحلام وأوهام تاريخية، باسم الوطنية. وكاد أن يتحول مفهوم الوطنية إلى عبودية جديدة للشعوب وتخديرها به، وسلب إراداتها وتحويل الشعوب من بشر إلى مجرد أرقام. حيث كان الديكتاتور الإيطالي الفاشستي، بونيتو موسوليني، يفتخر بأن لديه أكثر من ستة ملايين حربة (جندي)، رهن إشارته، سوف يعيد بها أمجاد الدولة الرومانية من جديد.
ولكن بعد الحربين العالميتين، تطور ونضج مفهوم الوطن والوطنية أكثر وأكثر، بعد ما ذاق الإنسان ويلات وكوارث التلاعب بحقوق المواطن باسم الوطنية. وتم صياغة قوانين ومعاهدات دولية للحفاظ على حقوق المواطنين في كل دولة ورعايتها ومتابعة العمل بها، من قبل منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة، التي شكلت بتوافق دولي، للحفاظ على السلم العالمي. إذاً رُبط السلم العالمي، بالسلم الداخلي لكل دولة وطنية، وهذا تطور بشري يحسب للإنسان الحديث.
ولذلك أدرجت الحكومات الوطنية في دساتيرها حقوق المواطن وأكدت عليها، والتي تراعي بدورها إنسانية المواطن والحفاظ على حياته وكرامته وممتلكاته وخياراته الشخصية، وتأمين سبل ووسائل العيش الكريم والرفاهية له، بقدر ما تستطيع معطيات الدولة من تحقيقه. ولذلك ففي ظل التنافس الدولي على جذب الكفاءات والخبرات العالمية إليها، سعت كل دولة في توسيع حقوق مواطنيها وتأمين سبل العيش الرغد لهم. خاصة في ظل العولمة والتي جعلت من العالم قرية كونية واحدة، لا يشعر فيها الإنسان بأي مكان في العالم بأنه بعيد عن أهله ووطنه الأصلي.
ونتاجاً لهذه التطورات، تطور ونضج مفهوم الوطنية، وأخذ يتطور بتطور ما يحتاجه المواطن من وطنه من ضروريات حياته المعنوية والمادية المحسوسة والملموسة التي يحتاج إليها. ويصدق ذلك، بالنسبة لنظرة الوطن وتوقعاته من مواطنيه؛ حسب ما تتطلبه ظروفها الداخلية من تعقيدات، وتداخلات العلاقات والمنافسات الدولية المحيطة بها. ولذلك أخذت الدول الوطنية المتحضرة تتوسع في عطاءاتها المحسوسة والملموسة لمواطنيها مقابل ما يقدمون لها من عطاءات يعززون بها مكانتها ودورها بين الأوطان القريبة منه والبعيدة عنه على حد سواء.
إذاً فالوطنية هي عطاء، فبقدر ما يعطي الوطن مواطنيه، بقدر ما ينتظر منهم من عطاء مقابل يوازيه أو يزيد عليه، والعكس صحيح، فبقدر ما يعطي المواطن وطنه، بقدر ما ينتظر من وطنه عطاءً مقابلا له يوازي عطاءه أو يزيد. وهكذا تحول مفهوم العطاء من مفهوم ميتافيزيقي غامض، لمفهوم محدد واضح، معلوم، يمكن قياسه والحكم عليه.
بالتالي فإن جوهر مفهوم المواطنة هو العطاء، والذي يعبر عنه بالعطاء المتبادل بين الوطن والمواطن. أي أن الوطنية هي طريق ذو مسارين، مسار يتحرك من الوطن للمواطن، والآخر يتحرك بالاتجاه المعاكس، من المواطن للوطن. فبقدر ما يعطي الوطن المواطن بقدر ما يتوقع منه عطاء مثله وأكثر. وبنفس الوقت، فكل ما أعطى المواطن وطنه فهو يتوق لأن يستقبل عطاء بقدر ما أعطاه أو أكثر. إذاً فمفهوم الوطنية، ليس بمفهوم مجرد، وإنما هو مفهوم حي، حيوي، ومتحرك، ملموس ومحسوس من قبل كلا طرفي مفهوم الوطنية، أو طرفي المعادلة الوطنية (الوطن والمواطن).
وبمناسبة عيدنا الوطني السعودي المجيد، ألا يحق لنا أن نفتخر، بأننا نعيش في وطن، يعطينا ونعطيه، يأخذ منا ونأخذ منه، بكرم متبادل منقطع النظير، يصبر علينا ونقدر ظروفه. كل هذا ولم نمر بحروب خارجية أو داخلية، تفرض علينا تطور مفهوم الوطنية لدينا، إنها حكمة قادة الوطن، وإخلاص مواطنيه البررة. فخير الناس من اتعظ بغيره، وشرهم من اتعظ بنفسه، فكل عام ونحن بخير ومحبة وسلام وطن ومواطنين.