اقترب من إشارة المرور الحمراء، وأرسل نظراته في تحفز وصرامة وعبوس، كان مقطب الجبين يتنقل وجهه كالمروحة بين أم أطفاله الساكنة الهادئة وبين حملقته المتربصة، ورغبته الشديدة في الافتكاك من قيود الإشارة وجبروت ساهر، مزاجه محاصر وخانق كما يبدو من خلال إمعانه في تمديد براطمه حتى كادت تلامس ركبتيه، والبراطم في المعجم الشعبي لها مرادفات متعددة فهي مرة براطم وأخرى مهادل وثالثة عنافر، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في محكم كتابه (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين)، والسؤال الملح الأزلي لماذا لا ترى رجلاً -إلا ما ندر- يبتسم أو تظهر عليه علامات الارتياح أو يتحدث إلى حليلته وهي إلى جواره في المركبة وقد غشيت وجهه مكنونات ذاته من المودة والرحمة، والانعتاق من أسر القولبة الفحولية الغليظة، والاحتماء بأغلال السلطة الذكورية القامعة؟ ألا يستطيع هذا وغيره خلع ذلك الرداء المخبوء في داخله كاللجام الحديدي، لأنه يحد من جموحه ومنسوب توثباته وصموده المكابر، ولأنه يخبئ في داخله مخلوقاً مشوهاً أدمن على التسيد والتعاليات الواهمة والرثائية؟ إن هذه الصورة تطال الكثير من النماذج الاستعراضية في المجتمع والحياة، فأنت تبصرها وتلمسها أمام موظف الخطوط ورجل المرور، ومدير الإدارة وأستاذ الجامعة ومعلم التلاميذ وطبيب المصحة. زار المدرسة التي كنت أعمل بها ولي أمر تلميذ وسألني: أين مدير المدرسة؟ فأشرت إليه أنه ذلك الواقف في الطابور، والطابور كلمة تركية تنطق تابور كما يقول تاج العروس، عاد الرجل ليسألني بسخرية لاذعة: لماذا وجهه يشبه يوم السبت؟ قلت: وماذا أزعجك في وجهه؟ قال: تجهمه وتوتره وتهدل براطمه، وكأنه سيفترس ويلتهم التلاميذ، قلت: ولماذا يوم السبت بالذات؟ قال: لأنه بداية الدوام الثقيل على الموظفين والطلبة، بعد الاستمتاع بإجازة نهاية الأسبوع قبل أن يصبح السبت إجازة أسبوعية، وأخيراً تأمل عزيزي القارئ صورنا المنشورة مع مقالاتنا، تلمح فيها ارتخاء بعض براطمنا، نتيجة المغالاة في توشح ثوب الجدية والموضوعية والصلابة الفكرية، والمواربة خلف سياج المثالية لكي لا نقع في شراك وربقة الاستئناس المجتمعي، فنفقد هيبتنا وانعزاليتنا وتتضاءل سلطة عقولنا وتجلياتنا وتنظيراتنا، بل عندما تشمر براطمنا بطريقة تفكيكية صاعدة نحو الابتسامة أو المرح، معنى هذا أننا نضحي بذلك الوقار الفائق والحلولية الصارمة، ترى ما هو الفرق بين أولئك المتجهمين وبين الإبل الشدقمية التي قال عنها الشاعر الكميت: غريرية الأنساب أو شدقمية يصلن إلى البيد الفدافد فدفدا، والشدقمية واسعة الأشداق والبراطم!.