المطلوب من الوحدة الفلسطينية أن تعبر عن رؤية استراتيجية، وأن يعاد النظر في السياسات السابقة لحركتي حماس وفتح فيما يتعلق بالتحالفات القائمة، وباستراتيجية الكفاح الفلسطيني
ألقى رئيس السلطة الفلسطينية، السيد محمود عباس أبو مازن، خطابا هاما، من على منبر هيئة الأمم المتحدة، تناول فيه مسار المفاوضات الفلسطينية، التي مضى عليها عدة سنوات، وتتابعت برعاية إدارات أميركية مختلفة، آخرها إدارة الرئيس باراك أوباما، وبوساطة وزير خارجيته السيد جون كيري.
أشار الرئيس الفلسطيني بمرارة، إلى عجز الوسيط الأميركي، عن تحقيق أي تقدم في المفاوضات، بما يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية وحق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني. لقد أرجع أبو مازن فشل هذه المفاوضات إلى تعنت العدو الصهيوني، وعجز الراعي الأميركي عن فرض أي ضغوط تجعله يسلم بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
لقد واصلت حكومة نتنياهو نهجها الاستيطاني التوسعي، وبنت المزيد من المستوطنات، والجدران العازلة، وقضمت الكثير من الأراضي الفلسطينية. كما شنت عدوانا وحشيا وشرسا، بلغ مستوى حرب الإبادة، على السكان العزل في قطاع غزة.
هل كان الخطاب الفلسطيني هو بمثابة إعلان شهادة وفاة المبادرة الأميركية، وتوقف المفاوضات، أم أن ذلك يأتي في سياق الضغط الفلسطيني المستمر، دون جدوى على مختلف الوسطاء، من أجل التوصل إلى تسوية، يقبل بها مختلف الفرقاء؟
ليس من شك في أن الواقع الفلسطيني، وما شاب من حالة انقسام استمرت طويلا بين الضفة الغربية وقطاع غزة، قد جرد الفلسطينيين من أوراق ضغط كثيرة. وقد أسهمت حالة الانهيار التي عمت عددا غير قليل من البلدان العربية، في إضعاف الموقف الفلسطيني. ففي السنوات الثلاث الأخيرة، لم تعد القضية الفلسطينية، مركز جاذبية، إن في مسارات السياسة العربية، أو في البنية التحتية، حيث الحراك الشعبي.
لقد انشغل الشعب العربي بهمومه المحلية، وهيمن الخوف من تفتت الأوطان وضياعها، وأصبح الهاجس الأول. ولم يكن متوقعا من بلدان تعيش بالفعل حروبا أهلية، كما في ليبيا واليمن وسورية والسودان، وأوضاعا غير مستقرة أمنيا في بلدان أخرى، كما في مصر وتونس ولبنان أن يكون اهتمام المواطن في هذه البلدان موجها لما يجري في الأرض الفلسطينية.
كما أن الواقع الدولي، لا يزال متسما بالفوضى وعدم الاستقرار. فالراعي الأميركي، ما يزال منهكا ومثقلا بأزماته الاقتصادية المستعصية على الحل، رغم كل ما يقال، عن تجاوزه لأزمته الاقتصادية. وبلدان الاتحاد الأوروبي هي الأخرى ما تزال مثقلة بأزماتها السياسية والاقتصادية، التي وصلت حد التلويح بانفراط الاتحاد، أو إلغاء عضوية بعض الدول الأعضاء، بسبب فشلها في حل أزماتها الاقتصادية.
وعلى صعيد النظام الدولي، يعيش هذا النظام وضعا هشا، وغير مسبوق. فقد انتهت مرحلة الأحادية القطبية، التي بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، ولم تتحدد بعد بشكل واضح معالم المرحلة الجديدة. هناك إقرار عام، من قبل المنظرين الأميركيين بأن المرحلة التي تفردت فيها الولايات المتحدة بالهيمنة على السياسة الدولية قد انتهت، وأن مرحلة جديدة، بدأت حدد صامويل هانتنجتون بعض معالمها بالقول، بأنها ستكون مرحلة تعددية قطبية، ولكن بقيادة أميركية.
لكن هذا التشخيص لا تدعمه الوقائع، فشرط القيادة هو التوافق بين القوى الدولية الفاعلة في صناعة السياسة الدولية. واستخدام الصين وروسيا للفيتو في مجلس الأمن الدولي، لنقض قرارات أممية تقف خلفها الولايات المتحدة، يؤكد غير ذلك. فالعلاقات الدولية، تشهد الآن حالة صراعية.
وما لم يتفق الغرماء، على صفقات وتسويات، شبيهة بالتسويات، التي تمت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية. وأيضا تلك التي شهدها العالم، إثر انهيار الثنائية القطبية، فإن العالم سوف يشهد حالة من الفوضى، إلى أن يتم ترصين العلاقات الدولية، بتفاهمات واتفاقات، بين القوى الكبرى، تعيد الاعتبار، للتوازنات الدولية، وتؤكد على الالتزام بالمعاهدات بين الأمم، ومبادئ هيئة الأمم المتحدة، والقانون الدولي.
هذه الحقائق، تفرض على الفلسطينيين، مراجعة جديدة، لسياساتهم واستراتيجياتهم. فليس يكفي أن يعلن اتفاق السلطة وحركة حماس، على العودة مجددا لوحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن يكون الطرفان قد قبلا بالاتفاق، لدوافع تكتيكية. فتقبل بها حماس للتخلص من عزلتها الخانقة، وتقبل بها السلطة الفلسطينية مرغمة بسبب فشل المفاوضات مع الكيان الصهيوني.
المطلوب أن تكون الوحدة الفلسطينية، معبرة عن رؤية استراتيجية، وأن يعاد النظر من قبل الحركتين، حماس وفتح في سياساتهما السابقة، فيما يتعلق بالتحالفات القائمة، وباستراتيجية الكفاح الفلسطيني.
لا بد من تمتين الجبهة الداخلية الفلسطينية، والاهتمام بالفلسطينيين بالمخيمات. فقد كانت هذه المخيمات المنتشرة في الأردن وسورية ولبنان، العمود الفقري للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي انطلقت بقيادة حركة فتح، في أوائل الستينيات من القرن المنصرم. ولسوء طالعها، تسبب اتفاق أوسلو عام 1993م، في انتقال جاذبية الصراع الفلسطيني، مع العدو من المخيمات إلى الداخل. وجرى تهميش الفلسطينيين، في المخيمات وعزلهم عن الكفاح الفلسطيني لأكثر من ثلاثة عقود.
حان الوقت لمراجعة استراتيجيات الكفاح الفلسطيني، واجتراح وسائل جديدة، لتصعيد النضال ضد العدو، واستلهام الدروس من روح انتفاضة أطفال الحجارة الباسلة، التي أذهلت العالم أجمع بعزيمتها وصلابتها، وفضحت السياسات التوسعية والعنصرية، للاستيطان الصهيوني. وقد قدمت مقاومة شعب غزة، أمام الاعتداءت الصهيونية، المتكررة دروسا كبيرة، لا تنسى في صمود الشعب المحتل، أمام غطرسة وشراسة جيش الاحتلال الصهيوني.
ليست هذه دعوة للمغامرة، بل دعوة للمراجعة وللتأمل والتفكير.