العلامة هاني فحص أجزل النصح والرأي لـ'حزب الله' وقيادته؛ من أجل إيقاف سلسلة الأخطاء الاستراتيجية، التي رفعت مستويات الشحن الطائفي في المنطقة إلى مستويات قياسية غير مسبوقة

العلامة هاني فحص الذي رحل مؤخرا عن دنيانا، يمثل الصورة الدينية العقلية المناسبة لتحقيق التوازن بين السنة والشيعة، وتأكيد تلاقيهما وقواسمهما المشتركة، بعيدا عن أي مظاهر احتقان وكبت نفسي يتعامل مع الحاضر بمعطيات التاريخ؛ لأن أحد أسوأ مشكلاتنا إنما تأتي من وضعنا للميزان بالمقلوب، بحيث نحتفظ بكل مرارات التاريخ ونجعلها نارا تلهب ظهر الحاضر والمستقبل.
العلامة فحص كان نموذجا مهما ومثيرا للاهتمام في فكره المتصالح مع عقائد الناس ومذاهبها دون شحناء أو بغضاء، وهو في الواقع تجسيد للتقارب بين المذاهب والحوار بين الأديان، وفي بلده لبنان تصطف كل العقائد والديانات والمذاهب والأعراق، فهو عمل في معمل إنساني كبير، وتوصل إلى نتائج تفاعلية ينبغي أن نقف عندها، ونلتمس منها اقتباسات تعيننا جميعا في مقاصدنا باتجاه الحقيقة والأمن والسلام المجتمعي والوطني.
والراحل في الحقيقة وطني مخلص لأمته العربية، فهو بدأ حياته السياسية مع حركة فتح الفلسطينية، عندما كانت تنشط في لبنان، وكان مقربا لفترة من حزب الله، قبل أن يتحول إلى مناهضته لاحقا، وظل طوال حياته ناشطا في المجتمع المدني والحوار بين الأديان، وقد أورثته مواقفه الرافضة لتوجهات حزب الله وسلوكه السياسي رفضا من شريحة شيعية واسعة مؤيدة للحزب، ولكنه ظل على قناعاته ومبادئه بخطأ الحزب ومزايدته على أمن لبنان والمنطقة.
وكان العلامة فحص متحررا من المبادئ العتيقة للحراك السياسي، ولم يتعامل من منطلقات عاطفية، وإنما كان رجل دين وسياسة براجماتيا، قدّم المنطق على التصرفات العاطفية التي تختزن ذات المرارات والأحقاد التاريخية، ولذلك مارس فضيلة النقد على نشاط حزب الله، وانتقد بشدة تدخله العسكري في سورية، وهو محق رغم عدم قناعة الكثيرين بذلك، ولكن حيثيات الواقع تؤكد أن اتجاهات العلامة كانت إيجابية وواقعية.
ولعله أجزل الخطاب والنصح والرأي للحزب وقيادته؛ من أجل إيقاف سلسلة الأخطاء الاستراتيجية التي حولت المنطقة إلى بركان من الفعل والفعل المضاد، ورفعت مستويات الشحن الطائفي إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، ويمكننا أن نلتمس سلامة منهجه ورسالته العقلية من خلال رسالته في آخر أيامه لقيادات حزب الله التي قال فيها: الأخوة في حزب الله.. قد عرفنا قوتكم عيانا وبالملموس.. وأردنا لها أن تتزين أو تتحصن بالعقل الذي يحرر فيتحرر، فإذا بها تصر على تحويل الحرية إلى ما يشبه القيد، عندما تخصص ذاتها بالثمرة وتصر على انتقاص حق الشركاء أو حرمانهم من حرياتهم، بالاستقواء على البعض واستتباع البعض، وتهز أعطافها، وتذهب في عُجب وتحديق نرجسي، في الزناد والزنود.
ويمكن أن نلاحظ الأسلوب الأدبي الرشيق في خطابه، ولا ريب فهو أديب وكاتب، وله من كتبه ماض لا يمضي، وذكريات ومكونات عراقية، والشيعة والدولة في لبنان، وخطاب القلب، كما أنه من أبرز المنظرين في مجال مقاربة الإسلام لمواضيع الحداثة المطروحة، وقد أسس المركز اللبناني للدراسات والحوار والتقريب، ومن خلال ما تركه الراحل من إرث معرفي وفكري، فإنه يظل حاضرا في المسيرة الفكرية والدينية المعاصرة، وهو مثل غيره من العلماء الأجلاء كالعلامة علي الأمين يظلون يضيئون مساحات واسعة من أجل امتصاص مشاحنات النفوس، ومعالجة أزمات الطائفية والهوية المذهبية التي تستعر بفعل الضغط التاريخي، الذي يحرص البعض على استصحابه في حاضرنا وإبقائه عنوانا بارزا للخلاف والاختلاف.
إن العلامة فحص رمز ونموذج ديني وفكري نحتاجه للقفز على كل أنماط الطائفية والتمييز المذهبي، وفكره يحقق مقاربات ضرورية وملهمة من أجل أن نحقق توازنا في مطلوباتنا العقدية، بحيث لا يتأجج شحن أو يرتفع سقف عبث مذهبي بأمن وسلامة المجتمعات والأوطان، وما تركه من أفكار إنما هي قبسات تضيء ليل الفساد الطائفي وتمحوه؛ حتى نصل إلى أفضل صيغ التوازن والتعايش دون رواسب وكوامن نفسية تعكر صفو الحريات الدينية وإعاقة الحوار واحترام القواسم المشتركة بين المذاهب.