الإنسان كائن يوجد من خلال العلاقات مع الآخرين، هذه العلاقات قد تكون محدودة وضيقة وتجعل وجوده ضيقا ومحدودا، وقد تكون علاقات واسعة وعميقة تملأ وجوده بالمعاني وتكافح شعوره بالغربة

المحرك الأساسي خلف هذا المقال والمقالات السابقة هو هذا السؤال: هل التواصل بين الناس محكوم بقرارات يتخذونها بإرادتهم أم أنه خاضع لطبيعة بيولوجية ليس لهم فيها دور حاسم؟ بمعنى آخر هل علاقاتي مع الناس أمر يمكن تعديله وتطويره أم أنني محكوم بطبيعة شخصية عميقة من غير المجدي محاولة تعديلها. السؤال السابق يحيل إلى قضية كبيرة جدا متعلقة بحرية الإرادة وحتمية الكون لا نريد التطرق لها هنا. الاستراتيجية التي اتبعناها هنا هي أن نبقى لا أدريين حيال السؤال السابق ونعمل على الرهان التالي: طبيعة الثقافة التي نعيش فيها والشروط الاجتماعية التي نتحرك داخلها قد توجه طبيعة تواصلنا بغض النظر عن أصولها البيولوجية، وبالتالي فإن التوجه لتلك الثقافة والشروط الاجتماعية له الأولوية لكي نتعرف على طبيعتنا البيولوجية إذا كانت أصلا موجودة. بمعنى آخر لنفترض أن طبيعتك البيولوجية تؤهلك للتواصل الجيد مع الناس ولكنك تعيش في بيئة ثقافية تحجب التواصل.
هذه البيئة ستحد كثيرا من قدرتك على التواصل، وبالتالي فإنه من الضروري تصحيحها أولا. الاحتمال الثاني أن طبيعتك البيولوجية تعطيك فرصة محدودة من التواصل ولكنك تعيش في بيئة تجعل التواصل أصعب. تحسين هذه البيئة سيرفع من فرصك للتواصل حتى ولو كانت في أصلها محدودة. إذا كان الكلام السابق صحيحا فإنه بغض النظر عن طبيعتنا البيولوجية وعلاقتها بقدرتنا على التواصل فإن تحسين شروط التواصل داخل ظروفه الاجتماعية عملية مفيدة للجميع.
ذكرنا أن الانفتاح والتسامح يعدان شرطين ضروريين للتواصل. بمعنى آخر أن التربية القائمة على الانفتاح والتسامح تتيح لأفرادها متسعا أكبر من فرص التواصل وبالتالي فرصة أكبر لتعميق وجودهم البشري. هذه النقطة الأخيرة مهمة جدا لأن التواصل هنا ليس مجرد علاقة استعمالية نصل من خلالها لأهدافنا من خلال الآخرين بقدر ما هو شكل من أشكال الوجود (مع) الآخرين. بمعنى أن التواصل هنا هو إدراك للطبيعة العلاقاتية للوجود الإنساني. الإنسان كائن يوجد من خلال العلاقات مع الآخرين، وهذه العلاقات قد تكون محدودة وضيقة وتجعل وجوده، ذاته، ضيقا ومحدودا وقد تكون علاقات واسعة وعميقة تملأ وجوده بالمعاني وتكافح شعوره بالغربة والوحدة.
من تجاربنا مع وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة ومع الكم الهائل من الناس الذين هم في متناولنا أصبحنا نعرف أن هذا الشرط بحد ذاته لا يكفي. لا يكفي أن تكون بين الناس لتتواصل معهم. التواصل هنا قرار إضافي ومستوى مختلف من الوجود. بمعنى أن التواصل مع الناس يعني قرارا جوهريا بالنظر إليهم بشكل مختلف. أو الانتقال بالعلاقة معهم من أفق إلى أفق آخر. من أفق العيش بينهم إلى العيش معهم. نلاحظ هنا أن العلاقات التي تملأ علينا الوجود هي من نوع العلاقات الثانية العيش مع. العلاقة مع الأم هي نوع أصيل لما أتحدث عنه هنا. الأم بالنسبة لنا ليست إنسانا نصل من خلاله لما نريد بل هي إنسانة يتجاوز معناها كل ما نريد، كل رغباتنا وكل أهدافنا. هي كائن نريد أن نعيش معه، نراه، نتحدث إليه ويتحدث لنا، وجودنا مع أمهاتنا يجعل وجودنا ذاته مختلفا. الحب والصداقة هي كذلك أمثلة على هذا النوع من الوجود. علاقاتنا مع أطفالنا مثال آخر. نلاحظ هنا أن كل تلك العلاقات يمكن أن يتم تخفيضها إلى العلاقة الاستعمالية ولكنها تفقد بذلك معناها. الصديق الذي يشعر أن صديقه يستعمله ولا يراه إلا في حدود العلاقة النفعية التي تجمعهما يبتعد عنه باستمرار وتفقد الصداقة معناها في الأخير. في حياة غالبنا تجارب محبطة مع الصداقة.
في السنين الأولى في المدرسة ومع بداية الرحلة للبحث عن أصدقاء تبدأ تلك التجارب. يؤلما كثيرا ذلك الصديق الذي اكتشفنا أنه لا يصاحبنا إلا لمصلحة ما. نغضب منه ويسقط من عيوننا إلى مساحة في القاع أخلاقيا واجتماعيا. في تلك التجارب الطفولية إدراك عميق لمعنى أن تكون صديقا. إدراك عميق لمعنى أن تكون في علاقة مفتوحة مع إنسان آخر يشاركك فيها بشكل غير مشروط تجارب الحياة وكل المعاني التي تتولد منها. كنا نعرف ونحن صغار مدى احتياجنا لمثل تلك العلاقات. نعرف جيدا كيف تجعل حياتنا أجمل وأسعد وأكثر معنى وقيمة. لا أظن الأمور تختلف حين نكبر. قد نكون أقدر على التحايل على حاجاتنا تلك وعلى تعويضها بالمزيد من الانغماس في الوجود المزيف ولكن في العمق يبقى النداء لتلك العلاقات مستمرا حتى نموت. كثير من الآلام التي تفسد وجودنا وشعورنا بالوحدة وبالغضب والتوتر العميق راجعة برأيي إلى أمرين: فقدان تلك العلاقات الوجودية والانغماس في عمليه إنكار ذلك الفقدان.
الاكتئاب والانغلاق على الذات والتعصب هي من أهم العوائق التي تحجب عنّا الآخرين. كانت المقالات السابقة محاولة لتفصيل كيف تعزل تلك المواقف الناس عن بعضهم. الظروف الاجتماعية التي نرتبط من خلالها بالآخرين تحتاج منّا إلى إعادة هندسة. إعادة هندسة هدفها فتح فرص أوسع تتيح لنا اللقاء مع الآخرين. كثير من الثقافات تحجب الأفراد عن بعضهم من خلال وضع الذات والآخرين في قوالب حادة تشكل قيود تحجب الناس عن بعضهم. هذه القوالب لها المستفيدون منها ولها دعاتها ولها أطناب عميقة في التاريخ، ولذا فإنه لا يمكن تفكيكها إلا بوعي عميق أولا بطبيعة تركيبها وثانيا بقيمة الوجود الذي تحجبه عنّا. المقالات السابقة المختومة بهذا المقال سعت إلى التفكير في هاتين القضيتين بالتحديد أملا في فتح حوار أوسع حولهما.