ومن جامع الراجحي خرجت من باب شمالي مثقلاً بتراتيل صلاة الجنازة. كان بينهم أغلى أصدقاء رحلة الحياة وها هو أمامي، تماماً، وكأنما هو يهمس لي بشيء من الحب وأشياء من العتب. كان أمامنا اثنتا عشرة جثة لا تعرف بعضها البعض. لكن الرائحة التي لا تخطئ تشير إلى الجثمان المسجى في الصف السابع من طابور الهاربين بلهفة إلى مقبرة النسيم. خرجت من جامع الجنائز وكان لزاماً فرضاً عليّ أن أسلك الطريق إلى اليمين: إلى الشرق، وإلى مقبرة النسيم. آاااااه يا أبا عبدالله... لو أنك كنت معي لنهرب إلى الغرب، وآآااه، مرة أخرى فكل آلاف المصلين في جامع الراجحي تستطيع الهرب إلى الغرب.. إلا أنت. لا بد أن تمشي إلى مقبرة النسيم.
سلكت أول الطريق ما بين الجامع والمقبرة. هي بالضبط أربع إشارات مرور وكم تمنيت لو أنها ألف إشارة كي تبقى بيننا لأطول وقت. عند الإشارة الثالثة، كانت سيارة الموتى تزمجر لكي نفسح لها الطريق، كنت أشم كل رائحتك وأنت تعبر من يميني وكنت أراك وسيارة الجنائز تعبر قاطعة آخر إشارة ثم تدلف يميناً إلى البوابة الأخيرة، كم وقفت معك... أبا عبدالله... عند مئات الإشارات وعشرات البوابات في حياتنا منذ إنديانا الأميركية حتى بوابة المقبرة. كنت أمامك وخلفك في الطريق إلى المقبرة وكم كنت أغبط القادمين في الاتجاه المعاكس من الطريق: هم يذهبون للغرب لا للشرق إلى حيث المقبرة. وفي ذروة الزحام الهائل إليك... أبا عبدالله... ترجلت. دخلت إلى المقبرة. شممت رائحتك من بين اثنتي عشرة جثة. كانوا يرفعون كفنك الأبيض بين آلاف الكفون. كنت أشاهدك من بعد بعيد فوق أعناق الرجال ولكنني لم أصل إليك إلا وأنت تحت التراب وهذه بشارة المؤمن. هم دفنوك بسرعة هائلة وهذه بشارة تقي نقي مؤمن مثلما عرفتك منذ ثلاثين سنة. وحين سلمت على الابن الغالي... عبدالله... كنت أقول له: قبلني.. ضمني... مثلما كان يفعل بي هذا الراحل الاستثنائي. بكينا سوياًّ مثل سحابتين تمطران فوق بعضهما البعض. ودعت... عبدالله... ثم عدت إلى قبرك المجاور لهذه المأساة. سكبت عليه الماء البارد ثم أخذت من فوق قبرك حصاة ستبقى معي للأبد شاهداً على ذاكراك يا أغلى الأصدقاء. كلنا سنكون معك في مقبرة النسيم. المسألة مجرد وقت.