مبدأ العنصرية والعصبية دخيل على الثقافة العربية، أقحمه الغرب على العرب وسلمنا به، في حين أننا لم نجد هذه السمة بين قبائل وبطون تتناسج في نسيج الدم والعصب

لم تكن سمة العصبية القبلية ونسبتها للعربي سوى أراء أطلقها المستشرقون على المجتمع القبلي، وسعينا وراءها ثم صدقناها؛ فاتسمنا بالعصبية دون أن نعي مداراتها!
وفي بحث علمي مطول أجريته عن آراء المستشرقين وأفكارهم ورؤاهم حول المجتمع العربي والقبلي، ومن خلال جداول دقيقة في تشابك النسب القبلي؛ وجدنا وحدة الدم متصلة. ثم رصدنا أنساب النساء العربيات وأمهات القبائل ـ إذ إن كل قبيلة لها أم واحدة مثل بني عاتكة أم قبائل العواتك، وبني بِّسة وغيرهم من القبائل ـ فوجدنا أن هؤلاء النساء عملن على شبكة عرضية عملت على نسيج عرضي طرز هذا النسيج في لُحمة واحدة!
وما يعرف في النسيج القبلي عن تعزيز الصلات في النسب والمصاهرة والسرارة وغير ذلك من اللحمة والذود والتحالف؛ جعل العربي يتصل صلة قوية بوحدة الدم ويذود عنها، فعم ذلك كل القبائل.
هذا التشابك الواضح بين القبائل في تناسلها من بعضها وفي تبادلها الحكم دون عصبية أو تعصب، وفي تناسبها ومصاهرتها، نجد أن مبدأ العنصرية والعصبية قد أقحمه الغرب على العرب وسلمنا به، في حين أننا لم نجد هذه السمة بين أناس وقبائل وبطون تتناسج في نسيج الدم والعصب.
فالعنصرية لا تأتي إلا حينما تدخل أمم على أمم غريبة عنها؛ وعلى سبيل المثال الأميركان والهنود الحمر أو الأميركان والأفارقة، التي خلفت بعدها عنصرية اللون، وبهذا سحب الغرب هذه السمة على العرب بالرغم من أننا رصدنا تناسلهم منذ آدم عليه السلام حتى عصر الدولة العباسية. وهذا هو ما جعلنا نبحر في تتبع شبكة العلاقات بين القبائل العربية فلم نجد سوى دم واحد يتدفق بينهم.
فهذا توماس إدوارد لورنس الملقب بـلورانس العرب يقول أثناء وجوده في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر: إذا كان ابن العشيرة وابن المدينة في المناطق العربية ليسا من سلالات مختلفة لذلك فإنه من المعقول تماما أنه لا بد أن تكون هناك عناصر مشتركة تظهر في نتاج هؤلاء الناس جميعا، فمنذ الوهلة الأولى ترى وضوحا شاملا وصلابة في المعتقد لم تكن لديهم أمور وسط في رؤياهم، فهم أناس يرون بلونين أبيض أو أسود فقط هم أناس جازمون، يحتقرون الشك، أفكارهم متحررة من القلق والأوهام إلى أقصى الحدود.
وما يعزز ما وصلنا إليه في بحثنا هذا عن مبدأ العصبية والعنصرية المقحمة على الشخصية العربية والقبلية على حد سواء قول ويلفريد وتسينجر حين طاف بالصحراء العربية كلها، ثم كتب كتابه فوق الرمال العربية في أوائل القرن التاسع عشر فيقول: المجتمع الذي يعيش فيه البدو مجتمع قبلي، بمعنى أن كل فرد فيه ينتمي إلى قبيلة، والقبيلة لها صلات بقبيلة أخرى. كلهم أقرباء، فهم ينحدرون من جد واحد. وكلما قربت الصلة قوي الإخلاص، وهذا الإخلاص يتغلب عى شعور الشخص إلا فيما ندر.
وهذا ما توصلنا إليه عبر تناسج هذه الأنساب وامتزاج دمائها؛ كي تكون حقيقة مبنية على يقين تنتفي معها هذه الصفة ـ وهي أن القبائل العربية تتسم بالعنصرية والعصبية والتمييز ـ فهو يقول في موقع آخر من كتابه: ومن عادات العرب أنهم لا يتعصبون بالتمييز في لون البشرة. هم يعاملون الملون كأنه أحدهم مهما كان لونه حالك السواد. وبهذه المناسبة في قاعة استقبال وفي بيت أمير دخل عبد عجوز، يلبس ملابس زاهية الألوان، فقام الأمير لمصافحته، وأجلسه جانبه، وكان يقدم له الطعام بنفسه.
فكل ما أدخل على الثقافة العربية من التعصب للون محض افتراء، ترسخ فيما بعد نتيجة تسرب هذه الآراء فينا! وقد فُسِرت سيرة عنترة في ما عاناه هذا البطل أنه بسبب لونه، وبعدما قمت بدراسة عن هذه السيرة، وجدت أن أزمة الصراع لديه تتمثل في أزمة ذاتية وجودية، وجودية أفقية وليست عمودية؛ نتيجة عداء القبيلة له؛ لأنه بطل شرس وخطر على زعيم القبيلة. فعنترة لم يحب عبلة كما هو شائع بقدر ما أحب وجوده المتمثل فيها.
وبهذا لم يكن اللون هو عصب ذلك الصراع، فالتمييز العنصري ثقافة دخيلة على القبيلة العربية، وقد وفدت بعد ظهور التمييز النعصري لعبيد أفريقا لدى الأميركان في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
كما أن تشابك هذه القبائل كان أمرا قد فرض نفسه، لأنه ليس من تخصصنا النسابة، وإنما استدعينا هذه الأنساب من المصادر والمراجع من مخطوطات قديمة فقط ولم نلجأ لأي كتاب مطبوع لتحري الدقة، كي نتعرض لها بالنقد والتحليل والتفسير كما تحتمه مهنتنا النقدية، وذلك لخدمة القضية التي تخص هذا البحث.
وقد تجلت لنا هذه الحقيقة أثناء كتابة كتابنا عبقرية الإنسان، الذي وجدنا أن تحقيق الشخصية العربية عن طريق كل فصول هذا الكتاب ومنها أيضا العادات والتقاليد كان يتطلب رصد هذه القبائل للتعرف عليها عن قرب؛ كي يتسنى لنا دراسة عاداتهم وتقاليدهم وكذا دراسة الشخصية القبلية نفسها في ذاتها وفيما بينها وبين القبائل الأخرى، وكي يستشعر العربي القرب والتآنس بمعرفته لهذا التشابك في الدم والعرق والنسب.
كما أننا استشعرنا ضرورة التعرف على المرأة العربية، لما ارتأيناه من اعتزاز العرب بها، ولما وجدنا لها من أهمية ومركز مرموق، إذ تنسب القبيلة إليها، وكيف أن القبيلة التي تتفرع فيما بعد إلى مئات القبائل، ثم إلى خلق كثير ينسبون إلى امرأة، ثم إن المرأة العربية من نسلها أشاوس العرب وعلماؤها وملوكها وشهداؤها وصحابة أجلاء رضوان الله عليهم، مما جعلنا ننشئ فصل سيدات العرب وأنسابهن، كما أننا ضمناها في شبكة الأنساب في الجداول الملحقة.
ويؤكد ذلك أن القبيلة تسمى باسم امرأة وهي أم القبيلة تعزيزا لمقامها، ثم إن الرجل حينما يعتز يعتز بامرأة، فيقول حين العزوة، وأنا أخو فلانة أو أنا أبو فلانة. وهذا موجود إلى الآن.
كل ذلك قادنا عن طريق البحث في أنساب هؤلاء السيدات الجليلات أن هناك تداخلا فياضا في الدم بينهم، ولذلك فهم ينسبون إلى بعض مهما تفرعت القبائل، وبذلك لم يكن العرب عصبيون على الإطلاق كما افتُري عليهم.