في فترة الثمانينات جاء المد الصحوي فانتشرت الثقافة التي تحارب الفن والجمال، وتغلغلت إلى عمق البيت السعودي، ومهرجانات تكسير الآلات الموسيقية شاهد حي على ما نقول
رغم تلك العلاقة الملتبسة التي يكرسها الخطاب الديني بين الموسيقى والدين، فإن أحدهما على أقل تقدير لا يمكن أن يلغي الآخر، فالعلاقة بين الفن والدين هي ذات العلاقة بين الجمال والجلال، نلمس ذلك تاريخيا منذ البدايات، فكل الشعوب التي عرفت الدين عرفت الفنون، وكان الفن الموسيقي مصاحبا للأديان حتى في المعابد والكنائس، على عكس ما يتصوره الكثير في بلادنا بأن الموسيقى مصاحبة دائما للابتذال والحفلات الماجنة.
والحق أن الموسيقى هي في ذاتها تعين الإنسان على تهذيب نفسه وتحريك روحه والصعود بها إلى أعلى درجاتها الإنسانية. الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) ينقل عن بعضهم – نقل موافق وليس مخالفا - يقول: من لم يطربه العود وأوتاره والربيع وأزهاره فإنه فاسد المزاج يحتاج إلى علاج. الدكتور الداعية عدنان إبراهيم يذكر في إحدى حلقاته أن العلماء العظام المتقدمين والأئمة السلف لهم صولات وجولات في عالم الموسيقى والغناء، وهؤلاء لم يزعموا يوما أن الإجماع وقع على حرمة المعازف! السؤال المطروح: لماذا بدت العلاقة تأخذ منحى التصادم والخصام بين الدين والفن؟
في نظري أعتقد أنه عندما تم تأسيس الدولة المدنية في أغلب الدول الغربية وانفصل العلم والفنون عن الكنيسة؛ حصلت ردة فعل عنيفة في مجتمعاتنا الإسلامية بكل أطيافها وكانت الاستجابة السريعة بحظر جميع أشكال الفن كالرسم والتصوير والموسيقى والغناء، وهذا ما نجده يتمثل بكل وضوح في حركة طالبان عندما حرموا كل أنواع الفن وقاموا بهدم تمثال بوذا في أفغانستان، الأمر الذي أثار استياء العالم! وكذلك الحال في الصومال فقد تم حظر الموسيقى والفنون وحتى كرة القدم! وكذلك في إيران فقد كانت طوال تاريخها رائدة في فن الغناء والعزف، وعندما جاء الخميني منع كل أشكال الطرب، ولكن توالي الضغوط عليه دفعته في فترة لاحقة إلى السماح ببث الموسيقى الكلاسيكية وبعض أنواع الغناء للرجال فقط.
ولنا في مسيرة مجتمعنا مع الفنون خير مثال، فعندما نستعرض الحقبة الزمنية التي عاشها السعوديون من الستينيات وحتى منتصف الثمانينات الميلادية نجد أنها فترة ذهبية للفن الغنائي، كل هذا لم يكن إلا لأن المجتمع كان متسامحا مع الفنون، ولكن في فترة الثمانينات جاء المد الصحوي وانتشرت ثقافة تحارب الفن والجمال، وتغلغلت هذه الأيديولوجيا إلى عمق البيت السعودي، ولعل بعض مهرجانات التكسير للآلات الموسيقية التي تطل علينا الفترة تلو الأخرى في وسائل التواصل الاجتماعي هي شاهد حي على ما نقول.
يقول شكسبير في إحدى مسرحياته على لسان أحد الأبطال: احذر فلان فإنه خطير وخطير جدا؟ فقيل له لماذا؟ قال: لأنه لا يتذوق الجمال. نعم، الشخص الذي ليس لديه حس فني يمكنه بكل سهولة ويسر أن يكره الآخرين ويؤذيهم، والمجتمعات التي تغيب عنها القيم الموسيقية والذائقة الجمالية ستكون أقرب إلى دائرة الكراهية والتطرف.
بالطبع ما نشهده اليوم من الأصناف المبتذلة في بعض الفضائيات هو تشويه حقيقي لجماليات الفن! إنني أقول بأن علينا عمل دراسات جادة وبحوث فكرية للظواهر الجديدة من الفنون بطريقة متجددة وواعية، بدل الاكتفاء بثقافة الممانعة والرفض. وختاما: أقترح عليكم سماع هذه المقطوعة للسيدة فيروز أعطني النايَ وغَنِّ، فالغِنا سِرُّ الوجود أو السيدة أم كلثوم: المَغْنَى حياة الروح، يسمعه العليل يِشفيه.