في هذه المساحة، أعلن صبر العسيري، السبت الماضي، بلغته النثرية البستانية التي ليست كمثلها لغة، سوى لغته الشعرية البستانية، عن احتراق اللغة البستانية، ولسان حاله قوله ذات حسرة على جمال:
مِصبَاحُ رُوحِكِ مَغلُولٌ ومُكتَئِبُ
والمُظلِمُونَ عَلَى أَنفَاسِهِ وَثَبُوا
تَغشَاهُمُ النَّشوَةُ الحَرَّى وتَلفَحُهُم
غَيبُوبَةٌ مِن سَعِيرِ الطَينِ تَنسَكِبُ
زَواحِفٌ مِن حُواةِ اللّيلِ عَاكِفَةٌ
عَلَى الخطِيئةِ يَمحُو صَحوَهَا الحَبَبُ
والأزمنة تتقلب بالجمال، باختلاف: المواسم، والعقول، والشخوص، وقدرات القلوب على رؤيته، وبانقسام الأحياء إلى فريقين: فريق يؤمن به، وفريق يكفر، فإذا ساد الكافرون بالجمال، ساد القبح، وإذا ساد المؤمنون به، عاد جمالا، كما أراده الله حين خلقه جميلاً، وهو - سبحانه - محب الجمال.
وعلى الرغم من هذا التقلب، تبقى تربة الجمال جاهزة لإنباته مع أول لمعة بارق، فتعود اللغة البستانية، خضراء، ويذهب الرماد نحو أعين الذين يذرونه في عيون الناس، لتبقى لغة صبر العسيري، بستانية، وهو القائل سابقاً إياي في الحكم على لغته: قطَفتُ مِن شَفَةِ الريحَانِ أُغنِيَتِي
وصُغتُ مِن زهرَةِ الرُّمّانِ أَبيَاتِي
حَمَلتُ مِن سحرِ أبها ألفَ رابِيَةٍ
وفي عيوني تعرّت كلُّ واحَاتي
شلالُ عِطرٍ على كفّي يُسَائلني
أهَكذا العِشقُ في أرضِ المروءاتِ؟
وهنا؛ يحشد في ثلاثة أبيات فقط، ما يشكّل صورةً كلية لبستانٍ في قرية الملاحة، فيجاور بين: قطفت، الريحان، زهرة، الرمان، رابية، واحاتي، شلال، ويستثمر تقارب المعاني؛ لأن ألفاظ البستان لا تتطلب سياقات لغوية محدّدة، ولا تستعصي على الامتزاج، ليهب قصيدته لغة شاعرة كقلبه، دون أن يتكلف عناء رسم الصورة.
أما حين يقول:
لَو كَانَ قلبي مِن ضِيَاء
أو كانَ مِن بَوحِ العَبَق
لَغَمَرتُ حَقلَكِ بَالضيَاء
وَذُبتُ في عِطرِ الحَبَق
فإنه يجعل ألفاظَ الحقل الشرطَ الافتراضي، ويجعلها أيضا جوابَه في الحالات كلها؛ إذ لو كان قلبه ضياء، لغَمَر حقلها بـالضياء، ليذوب في عطر الحَبَق، وبه شكلت ألفاظُ الحقل الصورةَ الفنية القائمة على التشبيه الضمني، وهي السبب والنتيجة في الوقت نفسه.
صبر العسيري لا يخرج من بستانه، حتى حين يصور القبيح المضاد، ومن ذلك قصيدة: معسّل، التي يصور فيها امرأة جميلة تتعاطى شيشة المعسّل، وليبرز التناقض بين جمالها، وقبح ما تتعاطاه، لا يجد أجمل من خمائله، وسنابله، لتقابل جمالها: يَا حلوةَ الشفتينِ أنتِ خَمِيلَةٌ
نَعَسَ الجَمالُ علَى ثَرَاهَا السنبُليْ
مَن بَدَّلَ المطرَ الضحُوكَ عواصِفَاً
كَرَّتْ على مُهَجِ الحقولِ بِمَنْجَلِ؟
فهذه المرأة كالخميلة الجميلة التي يرتاح الجمال على ثراها، وهي كالمطر، فيما العواصف كحاصدٍ يكر على الحقول، والحقول ذاتها ذاتُ مهجٍ تجعلها تشعر بالألم. والصّور الجزئيّة كلها مستمدّة من بستان يراه أحمد عسيري رمزَ الجمال والخصب، ولذا كان ثرى الخمائل سنبليا، ثم كان المطر الذي استحال إلى عواصف، خير ما اختار أن يصور به التحول من الجمال إلى ضده، أو يعبر به عن إفساد الجمال.
أبعد هذا القليل، من كثير، يمكن أن نقول: إن اللغة البستانية احترقت؟!
معاذ الله..