أثبتت الأزمة الأوكرانية أن سياسة 'تغيير الأنظمة' التي تتبعها واشنطن باستخدام 'القوة الناعمة' المتمثلة في تمويل ومساعدة 'منظمات المجتمع المدني' باسم 'الديموقراطية'، و'حقوق المرأة'، أو'حقوق الإنسان'، استراتيجية محفوفة بالمخاطر
صرح سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي الناتو، نيكولاس بيرنز، أثناء مؤتمر استضافة المجلس الأطلسي في 5 سبتمبر الحالي، أي في اليوم التالي من قمة رؤساء الحلف في ويلز، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد هزم أوروبا. وتُشير تعليقات السفير بيرنز إلى حقيقة أن أوكرانيا والمتمردين الموالين لروسيا وقَّعوا اتفاقا لوقف إطلاق النار، مما يقوض خططا لفرض عقوبات جديدة ضد روسيا، ولانتشار أوسع لقوات حلف شمال الأطلسي على الحدود الروسية.
وجاء وقف إطلاق النار، بعد عام تقريبا من الحرب شبه الأهلية في أوكرانيا، التي بدأت عندما ألغى الرئيس يانوكوفيتش المخلوع الآن خططا لتوقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. وأثار هذا القرار المعارضين المسلحين الذين كانوا يمولون بأموال طائلة من الغرب. وتفاخرت مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية، فيكتوريا نولاند، في ديسمبر الماضي، بأن الولايات المتحدة وحدها أنفقت، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، 5 مليارات دولار لإنشاء نظام ثوري مناوئ للسلطة وموالٍ للغرب في أوكرانيا.
وعندما اختار يانوكوفيتش التحالف مع روسيا، بدلا من أوروبا، أطلق المعارضون العنان، وبالتالي أصبحت أوكرانيا الآن مشتعلة في حرب أهلية.
وردت موسكو بحدة على التمرد الموالي للغرب،
ومايزال هناك الكثير من الاستراتيجيين العسكريين يشعرون بالقلق من أن تؤدي الأزمة الأوكرانية، إلى ما يمكن أن يكون نقطة انطلاق لحرب عالمية.
وقد أثبتت الأزمة الأوكرانية أن سياسة تغيير الأنظمة التي تتبعها واشنطن باستخدام القوة الناعمة المتمثلة في تمويل ومساعدة منظمات المجتمع المدني باسم الديموقراطية، وحقوق المرأة، أو حقوق الإنسان، استراتيجية محفوفة بالمخاطر.
ورغم ذلك، فإن استراتيجية القوة الناعمة قد استخدمتها الولايات المتحدة باستمرار، في دعم الحركات السياسية الموالية للغرب للاستيلاء على السلطة، وفي دعم الثورات الملونة. ففي جورجيا، كانت الثورة الوردية؛ وفي أوكرانيا كانت الثورة البرتقالية؛ وفي لبنان كانت ثورة الأرز.
وفي مؤتمر عقد في روسيا يوم 23 مايو الماضي، أعربت موسكو عن قلقها البالغ إزاء الثورات الملونة. ووفقا لإذاعة صوت روسيا ووكالات أنباء أخرى، فقد شارك نحو 42 خبيرا عربيا من الأجهزة العسكرية والأمن القومي في ذلك المؤتمر الاستثنائي، واستمعوا فيه إلى شرح حول هذا الموضوع الثورات الملونة من وزراء وكبار الجنرالات الروس في إطار مؤتمر الأمن الدولي السنوي.
وكانت هنالك رسالة واحدة قدمت بتفاصيل مسهبة من قبل قادة روسيا وروسيا البيضاء، هي أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الناتو يمارسان استراتيجية لتغيير الأنظمة، تستهدف دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووسط أوروبا وأجزاء من آسيا، بتوظيف هذه القوة الناعمة كنمط من أنماط الحرب السياسية.
وقدم مسؤولون روس وبيلاروس رسوما بيانية تفصيلية وخرائط توضح أن الولايات المتحدة قد حاولت بمساعدة من بعض حلفاء الناتو، على مدى العقد الماضي، إسقاط الحكومات في أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان وأفغانستان والعراق وسورية ومصر وليبيا واليمن.
وكان جميع المسؤولين الذين خطبوا في جلسة اليوم الافتتاحي لمؤتمر الأمن في 23 مايو، من واضعي السياسات الحكومية من الطبقة العليا، مما يؤكد خطورة الرسالة.
وجاء العرض الافتتاحي من وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، الذي أدلى بتصريحات مُعدة سلفا من قِبل الرئيس فلاديمير بوتين. كانت رسالة بوتين حادة، جاء فيها: إن عملية تطوير نظام جديد متعدد الأطراف من العلاقات الدولية يسير بصعوبة، وترافقه زيادة في عدم الاستقرار العالمي. وإننا لم نكن قادرين على إحراز تقدم كبير في تشكيل فضاء للسلام والأمن والاستقرار في أوروبا والمحيط الأطلسي. ومايزال الوضع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متوترا، وهناك مخاطر جدية مرتبطة بالوضع في أفغانستان. ومن الواضح أن التهديدات والتحديات الحديثة تجعل من الضروري إيقاف المنطق القديم للالجيوسياسية، الذي أصبحت محصلته صفرا، وإجراء محاولات لفرض أساليب وقيم خاصة على الشعوب الأخرى، بما في ذلك الثورات الملونة.
ثم قدَّم المتحدثون الآخرون تفاصيل ودراسات وتقييمات لحالة حرب جديدة. وكان من بين المتحدثين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الروسية الجنرال فاليري جيراسيموف، والأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي نيكولاي بورديرزها، ونائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف، ووزير دفاع روسيا البيضاء، يوري زهادوبين.
يُشار إلى أن هناك أربعة أميركيين فقط من بين الذين حضروا المؤتمر، أحدهم الدكتور أنتوني كوردسمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي أدهشته الادعاءات الروسية بأن الثورات الملونة تجتاح أوروبا الوسطى ودول الاتحاد السوفيتي السابق، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبأن هذا كله يُعد جزءا من استراتيجية أميركية تمتد من الرئاستين الماضيتين؛ لتغيير أنظمة الدول المستهدفة.
كتب كوردسمان تقريرا من 52 صفحة عن المؤتمر حذر فيه القادة الغربيين، خاصة أعضاء إدارة أوباما، بأخذ الحذر من التقييمات الروسية بشأن الثورات الملونة، باعتبارها شكلا جديدا من أساليب الحرب قد يُعرضهم للخطر. وقال إنه لا يؤيد وجهة النظر الروسية، وحذر أيضا من أنه من الواضح أن هذا التقييم الاستراتيجي الروسي الجديد قد صدر من الكرملين ليشكل كيفية رد روسيا على الأحداث الجارية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
كانت الحجج الروسية حول الثورات الملونة في العقد الماضي بأنها جزء من استراتيجية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الناتو لتغيير أنظمة الحكم، وتثبيت أنظمة مطيعة وموالية للغرب في البلاد الحيوية، سوف يتردد ـ بلا شك ـ صداها في بعض حكومات الشرق الأوسط. ويزعمون أن استخدام المنظمات الخاصة، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني غير الحكومية والمرتزقة والمقاتلون الأجانب، لشن حملات ضد الحكومات القائمة بهدف تغيير النظام، تمثل شكلا جديدا من أشكال الحروب. وفي مثل هذه الحروب، يبرز عدم وضوح خطوط الفصل بين المقاتلين والمدنيين، مما يؤدي إلى استخدام المدنيين كـدروع بشرية لإخفاء المقاتلين المسلحين في كثير من الأحيان. والنتيجة هي ارتفاع معدلات سقوط ضحايا من المدنيين، بينما ينخفض استخدام الأسلحة الثقيلة المرتبطة بالحروب التقليدية. وبشكل عام يزعمون أن الثورات الملونة لـتغيير أنظمة الحكم تنتهك اتفاقية جنيف وغيرها من قواعد الحرب التي انبثقت عن الحربين العالميتين في القرن الماضي.
والانتقادات إزاء حرب جديدة استمعنا إليها أيضا في واشنطن؛ ففي أواخر مايو، استضافت جامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة SAIS مؤتمرا حول موضوع الثورات الملونة، إذ زعم الكثير من المتحدثين أن مفهوم نشر الديموقراطية من خلال الثورات الملونة ينطوي على عيوب قاتلة، لذا ينبغي التخلي عنه كهدف للسياسة الخارجية الأميركية.