تطبيق مفهوم 'تعزيز الصحة'، الذي يعرف بأنه العملية التي تمكن الأشخاص من السيطرة على صحتهم هو الطريق المثلى. لقد أصبح تحقيق هذا المفهوم هو هاجس المخططين والمنفذين الصحيين في العالم
إن أعظم استثمار في أي مجتمع هو الاستثمار في الإنسان، فالإنسان هو مصدر الإنجاز والإبداع، وكل ما عدا الإنسان لا يعدو أن يكون أداة ومادة بين يديه، فإن أحسن مجتمعٌ الاستثمار في إنسانه، استطاع أن يُفعل المادة بين يديه، فلا يسع المادة إلا أن تستجيب لحركة الإنسان ليتحول التراب بها إلى ذهب، والصحراء الجرداء إلى أشجار وثمار وجنان .. إنها قصة الحضارات على مر العصور والأزمان.
إن الإنسان جسد وعقل وروح .. ثلاثية متكاملة، وإهمال أي منها سيعوق الإنسان عن أن يقوم بدوره في بناء الحضارة. وقد جعل الله الجسد قالب العقل والروح، فإذا القالب انكسر أو أصابه الضرر أثر سلباً على الإنسان بكُلّيته، ولذلك أوصى الخالق الإنسان أن يحسن الاستخلاف في جسده الذي وهبه الله إياه، وجعل الأخذ بأسباب صيانته وحمايته ورعايته من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ومما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة وعن جسده فيم أبلاه؟. ولذلك فإن المسؤولية عن صحة الإنسان تقع على عاتق الإنسان نفسه أكثر مما تقع على عاتق الطبيب والفريق الطبي.
إن ارتفاع وتضخم تكلفة علاج الأمراض استمر في ازدياد مطرد فاق التضخم العام لمعظم الدول، وذلك نتيجة نمط حياة غير صحي وزيادة نسبة الأمراض تبعاً لذلك واستحداث أنواع جديدة ومتطورة من تقنيات الأشعة التشخيصية والفحوصات المعملية والأدوية والعمليات الجراحية، مما ينذر أنه باستمرار هذا النهج في التعامل مع الصحة، فإنه سيستنزف أكثر وأكثر من الدخل الوطني وستعجز معظم الدول عن تقديم العلاج لمواطنيها، وبذلك أصبح الحفاظ على صحة إنسان أي مجتمع كان، ليس عملاً إنسانياً اجتماعياً فقط، بل إنه عصب التنمية والنهضة في كل مجالات الحياة. فما هو الحل؟ كيف يمكن أن نوقف هذا النزف والزيادة المطردة؟
ليس هناك من حل إلا بتطبيق مفهوم تعزيز الصحة، والذي يعرف بأنه العملية التي تمكن الأشخاص من السيطرة على صحتهم وعواملها الحاسمة، مما يؤدي إلى تحسين صحتهم، أو تمكين الناس بغية زيادة سيطرتهم على صحتهم وتحسينها. إنها تمكين الإنسان نفسه من أن يحمي نفسه ويقيها من أن يصبح مريضاً. لقد أصبح تحقيق هذا المفهوم هو هاجس المخططين الجادين والمنفذين الصحيين في شتى أرجاء العالم.
آلاف الدراسات تؤكد أن برامج تعزيز الصحة فعالة جداً على المديين البعيد والقريب على السواء، ففي دراسة نشرت في المجلة الأميركية لتعزيز الصحة تم التحليل الدقيق لتأثير برامج تعزيز الصحة للعاملين في الشركات التي تطبقها مقارنة بغيرها من التي لا تطبق هذه البرامج، فوجد انخفاض نسبة الغياب المرضي بما يزيد عن 27% وانخفاض نسبة تكاليف العلاج على الشركة المطبقة للبرامج بأكثر من 26%، والأهم من ذلك أنهم وجدوا أن كل دولار استثمر في برنامج تعزيز الصحة أدى إلى عائد استثماري بمقدار 5.8 دولارات.
وبناء على دراسات مستفيضة تم تحديد مجموعة من التدخلات الوقائية التي كان لها أكبر مردود وعائد استثماري على المجتمع والفرد والدولة، ومنها التدخين والسمنة والتطعيمات والفحص الدوري لبعض الأمراض كالأمراض السرطانية للثدي والقولون، ففي دراسة نشرت عام2011 في مجلة السياسة الاقتصادية المعاصرة، وجد بعد تحليل ودراسة المعلومات ما بين عامي 1991 و2007 أن دعم برنامج الحماية من التدخين والإقلاع عنه يمكن أن يوفر ما بين 14 و20 ضعف تكلفة البرامج، وذلك بخفض تكاليف العلاج والأمراض التي يسببها التدخين كالذبحات القلبية والجلطات الدماغية والأمراض الصدرية والسرطانية.
وفي دراسة نشرت في فبراير عام 2013 وجدت أن تطبيق برنامج مكافحة التدخين في ولاية كاليفورنيا ما بين 1989 إلى 2008 والذي كلف بليونين و400 مليون دولار أدى إلى خفض تكلفة العلاج في الولاية بمئة وأربع وثلاثين بليون دولار نتيجة تفادي الأمراض والمضاعفات التي يسببها التدخين.
وكذلك الحال في ولاية ماساتشوستس، فقد وجد أن تغطية تكلفة الإقلاع عن التدخين في عام 2006 أدت إلى انخفاض نسبة المدخنين بـ 26% في أول عامين ونصف العام، مما أدى إلى خفض نسبة التنويم لعلاج الأمراض القلبية الناتجة عن التدخين بـ46% وأن عائد الاستثمار للبرنامج يزيد على 25 دولاراً عن كل دولار واحد استثمر في البرنامج.
وفي دراسة نشرت في فبراير 2005 في المجلة الأميركية للصحة العامة وجدت أنه لو تم استثمار فقط أقل مبلغ مقترح من قبل (مركز السيطرة على الأمراض)، فإن انخفاض التدخين في الشباب والمراهقين فقط سيخفض تكلفة العلاج بما يزيد على 31 بليون دولار.
وبهذا الإدراك استطاعت بعض الدول الصناعية الجادة خلال عشرين عاماً ببرامجها الفعالة خفض نسبة التدخين من 45% إلى أقل من 20% والتركيز على المدخنين من الأطفال، ومثال ذلك أميركا ففي عام 2014 بناء على إحصائيات (مركز السيطرة على الأمراض) انخفضت نسبة المدخنين لتصبح 20% فقط في الرجال و14.5% فقط من النساء بعد أن كانت أكثر من 40% قبل عقدين من الزمن.
وفي دولة مثل أستراليا حيث عدد سكانها أقل بقليل من عدد سكان المملكة العربية السعودية، بينت دراسة أسترالية نشرت في 21 أغسطس عام 2008 أن كل دولار يستثمر في البرامج المكثفة في مكافحة التدخين أدى إلى خفض تكلفة العلاج الطبي بأكثر من سبعين دولاراً على مدى العمر، وأنه لكل عشرة آلاف يقلعون عن التدخين تتم وقاية 500 شخص من سرطان الرئتين و600 شخص من الذبحات الصدرية و130 شخصاً من جلطات الدماغ و1700 شخص من أمراض الجهاز التنفسي والرئتين.
وكذلك الحال في السمنة التي تؤدي إلى الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني والذبحات الصدرية والجلطات الدماغية وكثير من الأمراض السرطانية.
وصلت النفقات الطبية المرتبطة بالسمنة في أميركا إلى 90 بليون دولار في السنة أو ما يعادل 9% من مجموع الإنفاق على الصحة وإلى أكثر من 270 بليون دولار في السنة إذا أضفنا إلى الرعاية الصحية الخسارة في الإنتاج بسبب الأمراض والوفيات الناتجة عن السمنة.
وفي دراسة تحليلية عرضت في المؤتمر الذي عقد في واشنطن تحت رعاية مركز السيطرة على الأمراض وباحثين من جامعة ديوك بينت أن تحقيق انخفاض في نسبة السمنة بـ1% فقط سيؤدي على مدى عقدين من الزمن إلى خفض تكلفة العلاج الطبي بما يزيد على 85 بليون دولار، علماً بأن أعلى نسبة سمنة في العالم هي في الكويت وأميركا والسعودية بناء على إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2011 فإن 70% من الرجال و80% من النساء في الكويت، و80% من الرجال و76% من النساء في أميركا، و63% من الرجال و66% من النساء في السعودية مصابون بالسمنة أو زيادة الوزن.
وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن معادلة تحقيق تعزيز الصحة، بحثاً عن الحلول الشاملة والمتكاملة والمحددة في خطط طويلة المدى، واضعة في الاعتبار البيئة الاجتماعية والثقافية والمادية والطبيعية على السلوكيات، ونظرة الإنسان لنفسه وتقييمه لذاته.