أعرف صديقا نفقد الاتصال به منذ لحظة دخوله لمنزله مساء، حتى صبيحة اليوم التالي.. إذ يقوم بإغلاق هاتفه الجوال، وينصرف نحو أسرته، يمنع بطريقته تلك أن يقتحم عليه أحدٌ حياته الخاصة، حتى لو كانت عملية الاقتحام من خلال رسالة جوال!
استخدام الهاتف الجوال داخل المنزل في ظل انتشار مواقع التواصل يعني أنك تصطحب آلاف البشر إلى منزلك من خلال ضغطة زر واحدة.. تحاورهم وتناقشهم وتناظرهم.. جدل صاخب بالتي هي أحسن، وبالتي هي أسوأ!
حوّلت الأجهزة الحديثة منازل الناس من بيوت مطمئنة هادئة جميلة إلى منصات ومحطات ودوائر ومنابر ومراكز حوار صاخبة تتجاوز الحدود، بل تحطمها. تتباين علاقة الناس بهذه التقنية.. فئة يرافقها الجوال حتى في سرير نومها، وفئة تفعل ذلك عند الضرورة والاضطرار.. فئة ثالثة ترفض ذلك مطلقاً.. يقول أحدهم: لم يُخلق الذي يستحق أن أصطحبه معي لسرير نومي!
سألت صديقاً بدأ رحلة التعافي من إدمان الجوال - إن جاز وصفي له بذلك - عن تجربته.. فقال إدمان مواقع التواصل سبب لي ضغطاً عصبياً لا يحتمل.. كنت أشعر في السابق أنني أدخل بيتي ومعي عشرات الأشخاص وسط هذا الجوال.. أتخيل نفسي أفتح باب بيتي لحمولة باص كامل.. انتبهت لنفسي.. استطعت التقليل.. الآن يدخل معي حمولة ميكروباص صغير!
على كلٍّ، أدرك قيمة هذه الأجهزة وجمال هذه التقنية وأهميتها في حياة الإنسان في هذا العصر المتسارع.. وسبق لي القول إن الهاتف الجوال بمثابة سكرتير شخصي، الفرق أنه لا يتعب ولا يمل، ولا يتذمر، ولا يمرض، ولا يطلب إجازات، ولا بدلات، ولا انتدابات.. يعمل على مدار الساعة.. لكن، وهذه الخلاصة، يفترض وضع حد لتدخلات هذا السكرتير في حياتك الخاصة وجلساتك الحميمية والأسرية ولحظات صفائك ونومك وأكلك وقراءتك ولعبك مع أطفالك وباقي شؤون حياتك.. فإن لم تستطع فـأهون الشرين أن تستغني عن هذا السكرتير - تأشيرة خروج نهائي - وتذكر - تذكر جيدا - أنك عشت سنوات طويلة من حياتك دون أن تعرف هذا السكرتير المزعج.. وكانت حياتك جميلة للغاية!.