هناك تجارب حولنا لمختلفين يتحاورون بالرصاص والسيوف، فماذا كانت النتيجة؟ أوطان ممزقة، وشعوب بائسة وتائهة، وتشرد وموت ومرض وفقر وضياع ونزوح.. وآلام لا تنتهي

الإرهاب جريمة معقدة ومركبة أكثر مما يبدو عليه الحال في سياقات جنائية تتعامل مع مجريات لاختراقات أمنية منصوصة وواضحة، والمفارقة أن المجرم الذي يرتكب جريمة تخضع للمستويات القانونية والتشريعية المعروفة، إنما يمثل حالة انحراف سلوكي ونفسي وعقلي، تجعله مهيأً لارتكاب أي شكل من أشكال الجريمة، مثل القتل أو السرقة وغيرها، ولكن في الحالة الإرهابية تكون التهيئة مغطاة بغطاء كثيف من أفكار سلبية لشخص لم يكن مهيأ ذاتيا للاختراق الذي يهدد أمن وطن أو مجتمع.
هنا تتضاعف خطورة الجريمة الإرهابية وتخرج عن السياق المتعارف عليه؛ لأن الإرهابي يكتسب حيوية متطرفة على مستوى عال من التفكير والتخطيط، ولا يبدو واضحا إلى أن يرتكب أول جريمة، عكس من يتم تسجيلهم كمجرمين خطرين متخصصين في جرائم بعينها محدودة الضرر، وحتى نبدو موضوعيين تجاه تفسير الحالات الإرهابية يمكن أن ننظر إلى حادثة إطلاق النار التي حدثت أخيرا في القطيف بمعزل عن السلوك الإجرامي الذي يستهدف وضعا معينا محدود الأثر والنتائج، وذلك ما لم يحدث في الواقعة، إذ أدّى ذلك إلى اشتعال حريق في أنبوب للنفط قريب من الموقع، وهنا انتقلت الحالة من كونها إجرامية إلى إرهابية.
الإرهاب في أبسط معانيه يعني إثارة الرهبة والفزع والرعب في الأفراد والمجتمع ومؤسسات الدولة، وحين تتعرض المؤسسات ومن يمثلها لأي حد أدنى من الاختراق الأمني، فذلك لا يمكن التعامل معه في سياقات إجرامية تقليدية.
ذلك أصبح متعارفا عليه في كل الأجهزة الأمنية الدولية، وبالتالي فإن المساس الأمني بأجهزة ومؤسسات الدولة والتداخل معها بعنف لا يمكن تسويغه وتبريره أيّا كانت الأسباب، ذلك يدخله في الدائرة الإرهابية لأنه يتضمن تعقيدا أمنيا حول الدوافع والنمط الفكري في التعاطي مع التدبير الاختراقي للأمن الوطني.
ليست لأي جماعة وطنية مبررات للشحن النفسي والفكري السلبي مع السلطة، ولا توجد دولة أو مجتمع يتجانس بصورة مثالية، ودائما هناك فروقات واختلافات، وفي نفس الوقت قواسم مشتركة وخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ولذلك يتولى قادة الرأي في المجتمع التعبير عن حاجات واتجاهات الجماعات المتخالفة مع السلطة للوصول إلى أقصى حد من التوافق دون أي مساس بثوابت اجتماعية أو وطنية، ولا يمكن بالطبع أن يترك الأمر لعامة الناس ليعبّروا عن حاجاتهم، فهم يخضعون لردود الأفعال ولا يمكن أن يقدموا طروحات ناضجة تمثل أشواق أولئك المختلفين.
ما حدث من إطلاق نار وحريق منشأة وطنية تزامن مع إعلان السلطات الأمنية قبضها على 88 شخصا حرضوا الشباب وغرروا بهم، منهم ثلاثة أشخاص من الجنسية اليمنية، وشخص مجهول الهوية، والبقية سعوديون، من بينهم 59 سبق إيقافهم على خلفية قضايا الفئة الضالة، وهؤلاء ينضمون إلى ست خلايا خططت لاغتيال شخصيات، وعدد منهم أرسلوا أبناءهم إلى التنظيمات في الخارج، بينما منهم من خطط للالتحاق بتلك التنظيمات، وبهذا يفسر كل شيء نفسه فيما يتعلق بيوميات الإرهاب والفكرة الإرهابية، التي تختمر في عقليات لم تستوعب القيم الضامنة لاستقرار المجتمعات والأوطان.
لا يمكن لمن يمارس الإرهاب في إطار عقيدة متطرفة وسلوكيات تفرط في العنف أن يصل إلى نتيجة إيجابية، ورغم تكرر النتائج السلبية لكل عمل إرهابي وسلوك إجرامي في نطاقه، إلا أنه يبدو أن هشاشة العقول التي يتم تضليلها والنفوس التي يتم شحنها تعمى بصيرتها عن استيعاب الرؤية الكلية للمعنى الحقيقي للاستقرار والأمان، فحوالينا تجارب لمختلفين يتحاورون بالرصاص والسيوف، فماذا كانت النتيجة؟! أوطان ممزقة، وشعوب بائسة وتائهة في بلاد الله الواسعة، وتشرد وموت ومرض وفقر وضياع ونزوح وآلام لا تنتهي، ذلك هو بالضبط حصاد الكارثة الإرهابية.
قائمة الـ88 تضم سعوديين وأجانب، وحين نمعن النظر في هؤلاء الأجانب نجدهم يرحلون مع الفكرة الإرهابية بغض النظر عن دورهم في المحصلة إذا تحقق لهم بعض ما يسعون إليه، إنهم في الواقع مغفلون وضائعون، تركوا أوطانهم تتمزق ليسعوا للمشاركة في تمزيق غيرهم، ولا يمكن لعقيدة سويّة أن تسمح بهذا الهراء العقدي وغير الإنساني، الذي يستهدف أبرياء في أماكن أخرى، ولذلك فإن ما حدث في القطيف أو تجميع شتات هؤلاء العابثين يلتقي كله في تعكير الأمن الاجتماعي والوطني، ويطوّر السلوك الإجرامي في كلتا الحادثتين بصورة سلبية إلى المستوى الإرهابي الذي ينبغي أن يتوقف ويحل محله الحوار ولا أداة أو وسيلة غيره للحصول على أي قوائم مفترضة لمكاسب اجتماعية أو حتى ذاتية.