القضية الفلسطينية الآن على أبواب منعطف تاريخي، فالمفاوضات مع العدو سوف تعاود مسارها قريبا، وينبغي ألا يمكن العدو، تحت أي مبرر من إنجاز ما عجز عن تحقيقه في الميدان
عبرت غزة، ومعها كل شعب فلسطين، مرحلة هي الأصعب ضمن المواجهات العسكرية، التي خاضتها، ضد عدوان الكيان الغاصب، منذ جرى احتلالها في حرب يونيو عام 1967. وكان نصرا على العدو، حيث لم يتمكن من تحقيق أي من أهدافه، وعلى رأسها نزع سلاح المقاومة الفلسطينية الباسلة.
لقد قدم الفلسطينيون خسائر كبيرة، بلغت أكثر من ألف ومئتين من الشهداء، من ضمنهم أكثر من ستمئة طفل، وما يربو على اثني عشر ألف جريح، جروح كثير منهم خطرة، عدا تدمير أكثر من ألفي وحدة سكنية، لكن الفلسطينيين رغم الهجمة الوحشية الهمجية الصهيونية، لم يرفعوا الراية البيضاء، ولم يمكنوا العدو من تحقيق أهدافه.
على السلطة الفلسطينية، في هذه المرحلة، مهام عسيرة، على رأسها إعادة تعمير ما خلفته الحرب، وإعادة النازحين والمهجرين إلى أماكن سكنهم، فبعضهم حولت مساكنهم إلى أنقاض، كما في حي الشجاعية، في الشمال الغربي من القطاع. ليس ذلك فحسب، فهناك الحاجة السريعة إلى مداواة الجرحى ومعالجة جراحات ومعانات اليتامى والثكالى وليس ذلك بيسير أمام الإمكانات المتاحة والمتواضعة للسلطة الفلسطينية، في مجال الخدمات الصحية.
وهناك أيضا قضية الحفاظ على الوحدة الفلسطينية التي ما كان للمقاومة الفلسطينية أن تصمد في مواجهة العدوان، وأن تحقق ما أنجزته من صمود لواحد وخمسين يوما من دونها. وهي وحدة لازمة للخروج باستراتيجية سياسية كفاحية جديدة، لمرحلة ما بعد حرب غزة.
لقد أثبتت تجارب الكفاح الفلسطيني، منذ انطلاق مقاومته المعاصرة، في نهاية الخمسينات، واستمرارا بالنضال الملحمي ضد المشروع الصهيوني، بعد نكسة يونيو عام 1967، إلى حوادث الأردن في سبتمبر عام 1970، واستمرارا إلى غزو بيروت عام 1980، أن المقاومة الفلسطينية، هي أقدر على الاحتفاظ بتماسكها ووحدتها، أثناء المواجهة مع العدو، وأن معظم معضلاتها وصراعاتها الفئوية والحزبية، تتحقق بعيدا عن مسارح القتال.
وكانت واحدة من النتائج المرة، لحالة الاحتراب بين أطراف المقاومة الفلسطينية، أننا ننتصر في مواجهة الاعتداءات العسكرية، ونفشل في إدارة المعارك السياسية.
أصبح ذلك ما يشبه القانون، في معظم المعارك. وكان ذلك جليا بعد إنجاز معركة الكرامة، عام 1968، التي تمكنت فيها المقاومة من دحر هجوم إسرائيلي واسع عليها. وما لبثت المقاومة بعد النصر مباشرة، أن فرخت تنظيمات جديدة، أعاقت مسيرتها، وتسببت في حدوث مشاكل كبيرة لها. وتكرر ذلك في منتصف السبعينات من القرن المنصرم في لبنان، حين غلفت الصراعات الفئوية والحزبية، بمواقف سياسية، معارضة أو موالية للتسوية مع الكيان الغاصب، لكنها جميعا فشلت في صياغة استراتيجيات ناجعة، وقادرة على تحقيق صبوات الشعب الفلسطيني في الاستقلال والحرية والانعتاق.
والأنكى من ذلك، هو ما حدث بعد الصمود الأسطوري، أمام الغزو الإسرائيلي لمدينة بيروت، الذي تجاوز الثمانين يوما. فقد انتهت الحرب بانشقاق رئيسي في حركة فتح، أكبر حركات المقاومة ثقلا ونوعا. وقد أدى ذلك إلى نتائج كارثية، تمثلت في المواجهة العسكرية المسلحة، بين الفلسطينيين أنفسهم، في مخيم البداوي ونهر البارد وعين الحلوة، ومصرع الآلاف من الفلسطينيين، وتراجع وضع القضية الفلسطينية، محليا وعربيا وعالميا، إلى أن جاء الإنقاذ من أطفال وأبطال الحجارة، في انتفاضتهم الباسلة، التي أبهرت العالم أجمع.
خلاصة القول، أن القيادات الفلسطينية، على عتبة مرحلة جديدة، وأنها لن تتمكن من تحقيق أي تقدم على طريق دحر المشروع الصهيوني، ما لم يستلهم بما حدث في غزة من منازلة ملحمية مع المحتل. لقد كان لعنف الهجمة الصهيونية ووحشيتها، حافز ملهم للمقاومين، لكي يوحدوا خنادقهم، ويتساموا فوق جراحاتهم. فكانت النتيجة هي ما شهدنا من نصر مبين، على مخططات العدو ومشاريعه، في تفتيت الوحدة الفلسطينية، ونزع سلاح المقاومة.
ما يدفعنا لهذا الحديث، هو ما يجري الآن من مهاترات ومزاودات، وعودة لسياسات المحاور، والتي أكدتها خطابات بعض قيادات المقاومة، بمناسبة وقف إطلاق النار، ووضع حد للعدوان. لم يتورع بعض القادة عن توجيه الشكر فقط، للقنوات الفضائية وللدول التي تنتهج موقفا سياسيا أيديولوجيا يتسق مع أديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وتناست هذه القيادات، أدوارا حيوية لنظم وحكومات عربية أخرى، ما كان لوقف إطلاق النار أن يتحقق، لو لا دعمها الكبير ووقوفها إلى جانب كفاح الشعب الفلسطيني.
الخلل إذن وكما يبدو، في معادلة صراعنا مع العدو الصهيوني، هو أننا دائما نثبت جسارة وشجاعة نادرة في المواجهة العسكرية، ونفشل المخططات الصهيونية، لكن العدو يكسب دائما في ميادين السياسة.
لا بد من موقف سياسي موحد، لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة، وشرط تحققه هو تجاوز النعرات الحزبية والفئوية والانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في الحرية والاستقلال. ولا خيار غير الانتظار لاستكمال متطلبات المرحلة الانتقالية، لتحقيق الوحدة الفلسطينية، التي جرى التوافق عليها، قبل العدوان الأخير، بين مختلف مكونات المقاومة الفلسطينية. فاستكمال هذه المكونات، سوف ينتج عنه تشكيل مجلس تشريعي جديد، وحكومة وحدة وطنية، ينتظر أن تكون قادرة على صياغة استراتيجية كفاحية جديدة، تكون في مستوى تضحيات شعبنا الفلسطيني، في المواجهة الأخيرة بقطاع غزة، ولتكون معبرة عن متطلبات مرحلة ما بعد العدوان.
القضية الفلسطينية الآن، على أبواب منعطف تاريخي. فالمفاوضات مع العدو سوف تعاود مسارها قريبا. وينبغي ألا يمكن العدو، تحت أي مبرر وذريعة، من إنجاز ما عجز عن تحقيقه في الميدان، من خلال بوابات صراعاتنا واختلافنا. وليس من سبيل لإفشال مخططات العدوان، سوى استحضار دروس معركة غزة، فبوحدة خنادق المقاومة صنعنا النصر، وبوحدة هذه الخنادق في ميدان السياسة نتمكن من إفشال كل مخططات العدو، ونحقق نصرا مؤزرا آخر، فهل تكون مقاومة غزة وبسالتها، درسا بليغا لما تعنيه كلمة الوحدة والانتصار لمرحلة ما بعد غزة؟!