الأحلام مفتاح الإبداع وإيجاد الحلول، لكنها تقدم الحلول على شكل رموز، وهذا يعود لحركة المناطق الدماغية التي تنشط خلال الأحلام، وهذه المناطق لا تحرك المنطق بقدر ما تنشط إرسال الصور الخلاقة

ظاهرة شغلت الإنسان منذ أقدم العصور والأزمان، ورغم الأبحاث والاكتشافات العظام، إلا أنها بقيت اللغز المحير لبني الإنسان.
يقول عنها الغزالي اعلمْ أن للقلب بابين للعلوم، واحد لعالم الأحلام والثاني لعالم اليقظة، وما يُبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يُبصرُ بالحواسِ.. إنه عالم الأحلام.
الأحلام قضية معقدة شرق فيها المحللون وغربوا بحثاً عن أسبابها وماهيتها، ورغم أن الإنسان يقضي ساعتين في الأحلام كل ليلة، أي ما يعادل حوالي ستة أعوام خلال حياته، إلا أن عالم الأحلام ما زال من أكثر الأمور غموضاً للإنسان وتسمى الدراسة العلمية للأحلام بـ(علم الأحلام) فنبدأ بالسؤال: لماذا نحلم؟ ما الذي يحدث داخل الدماغ أثناء الحلم؟
في عام 1952 حدث أمر مذهل، فقد وجد الباحثون في جامعة شيكاجو أن نشاطاً كهربائياً فريداً يحدث خلال مرحلة معينة أثناء النوم، وعندما يُوقظُ النائمون خلال هذه المرحلة فإنهم على الدوام يؤكدون أنهم كانوا يحلمون ويتذكرون أحلامهم جيدا، ووُجد خلال هذه المرحلة كذلك أن مُقل العينين تتحرك بشكل سريع تحت الجفون وفي كل الاتجاهات، ويمكن ملاحظة ذلك وبكل وضوح بإمعان النظر في الأشخاص النائمين خلال هذه المرحلة التي سميت مرحلة (حركة العين السريعة).
وفي هذه المرحلة تحدث أمور غريبة، فقد وُجد أن نشاط الدماغ الكهربائي خلال هذه المرحلة مشابه لنشاط الدماغ أثناء اليقظة ولذلك أعطي اسماً آخر هو (ظاهرة النوم المتناقض) فالدماغ يقظ والجسد في حالة شلل كامل أشبه ما يكون بالميت، وسبب ذلك يكمن في إفراز المواد الكيميائية داخل الدماغ، كـالنورايبينيفرين والسيراتونين والهيستامين، فالدماغ يتوقف عن إفرازها تماماً، وهذا هو سبب الشلل الكامل لعضلات الجسم، كأن الإنسان خرج من جسده، وهذا يفسر قدرة الإنسان أثناء الحلم على الطيران والركض بسرعة خارقة أو محاربة الأعداء والوحوش.
هناك العديد من النظريات الشائعة التي تحاول تفسير سبب الأحلام، منها ما اعتبره البعض بأنها رغبات مكبوتة يترجمها العقل الباطن بشكل صور أو مشاهد غير مترابطة، وهذا ما ذهب إليه فرويد وغيره، ولكن ثمة نظريات أكثر مصداقية لأنها تستند لتجارب مكثفة وبراهين علمية، كلها تؤكد أن الحلم حلقة مكملة للإدراك الحسي والفكر التحليلي الواعي، فالتفكير لا ينقطع عندما ننام، بعكس ما كنا نظن سابقا، والدراسات تؤكد أن الإنسان أثناء النوم يستمر في حالة من الوعي الفكري النشط، فالدماغ لا ينقطع عن التفكير في المشاكل الحياتية، والفرق هنا أن الدماغ لا يتعامل مع الأفكار بالطريقة العادية.
إن العقل اللاواعي يستطيع أن يتعامل مع عشرين مليون بت في الثانية، والبت هو أصغر وحدة قياس في الحاسوب الآلي، في حين أن العقل الواعي لا يستطيع أن يتعامل مع أكثر من 20 – 40 بت في الثانية فقط.
وأثناء النوم يتحرر العقل اللاواعي من وصاية العقل الواعي وبقدرته الفائقة على تجميع المعلومات أثناء اليوم وملاحظة أدق التفاصيل، وبسرعته الفائقة على التحليل يحاول العقل اللاواعي أن يعين العقل الواعي في الإنسان أثناء النوم، فيقدم له حلولاً مبدعة لمسائل استعصت عليه أو يحذره من أمور قد غابت عنه. وهذا يفسر مئات الاختراعات والابتكارات والاكتشافات الإنسانية التي توصل إليها الإنسان بعقله اللاواعي أثناء النوم بعد أن عجز عقله الواعي أن يفعل ذلك أثناء اليقظة، مثل الكيميائي فريدريك أوجست كيكول الذي عجز بعقله الواعي عن أن يصل إلى تركيب البنزين فاستسلم ذات يوم لإغفاءة قصيرة قرب المدفأة، ومن فرط انشغاله بتلك المعضلة رأى ذرات البنزين يطارد بعضها بعضا، وتتراجع الذرات الأصغر لتأخذ مكان المؤخرة ثم فجأة تحولت تلك الذرات إلى أفاعٍ وأطبقت إحداها بفمها على ذيلها، وبسرعة انتبه من غفوته مدركاً أنه اكتشف الحلقة المفقودة لمركبات البنزين.
وكذلك إلياس هاو مخترع ماكينة الخياطة في القرن الثامن عشر، فعندما عجز عن تحديد موضع الفتحة في الإبرة، حلم بأشخاص يرمون رماحاً ولكل رمح فتحة في أعلاه على شكل العين فاستيقظ وأدرك المكان الصحيح لوجود الفتحة في إبرة الخياطة أثناء تصميمه لها.
وكذلك الحال بالنسبة للفسيولوجي الألماني أوتو لووي الذي فاز بجائزة نوبل للطب عام 1936 بعد أن رأى في المنام كيفية النقل الكيميائية للإشارات العصبية بعد عجزه عن فك اللغز في معمله على مدار 17 عاماً جاءته الكيفية في المنام.
وكذلك الحال باكتشاف الأنسولين عام 1921 بحلم رآه فريدريك بانتنج وفاز بجائزة نوبل عام 1923، وكذلك النظرية النسبية لأنيشتاين وقد رأى المعادلة في المنام وعاد يدرس الرياضيات لعدة أعوام ليثبت ما رآه في المنام، وكذلك اكتشاف البيروني لمحيط الأرض وغيرهم كثيرون. إن النوم بشكل عام يساعد الإنسان على حل المسائل المعقدة، ففي إحدى الدراسات عام 2004 تم تقسيم مشاركين في الدراسة عشوائياً إلى مجموعتين لحل لغز أو معضلة رياضية، فوجدوا أن أفراد المجموعة التي سمح لها أن تأخذ قيلولة في منتصف المسابقة استطاعوا أن يحلوا اللغز بنسبة 60%، مقارنة بالمجموعة الثانية التي استمرت بدون قيلولة وكانت نسبة نجاحهم 25% فقط، وقد وجد أنك إذا أخذت مجموعة من الأشخاص يحفظون زوجاً من الكلمات ولا تسمح لهم بالوصول إلى مرحلة حركة العين السريعة أثناء نومهم فإن ذاكرتهم ستبدأ بنسيان تلك الكلمات في اليوم التالي.
ولتتعلم مجموعة من الأشخاص أشياء جديدة وصعبة خلال يومهم وقمنا بقياس النشاط الكهربائي لأدمغتهم وهم يقومون بذلك وبعدها وكذلك حين ينامون تلك الليلة، فإننا سنجد مطابقة عجيبة في أدمغتهم أثناء النوم تكرر نفس درجة النبض الكهربائي أثناء ممارسة تلك النشاطات خلال اليقظة.
وبذلك تصبح الأحلام مفتاح الإبداع وإيجاد الحلول، لكنها تقدم الحلول على شكل رموز، وهذا يعود لحركة المناطق الدماغية التي تنشط خلال الأحلام، وهذه المناطق لا تحرك المنطق بقدر ما تنشط إرسال الصور الخلاقة، أي التي تمكن الحالم من رؤية الحل، بدلاً من أن تجعله يفكر في طريقة الوصول إليه، وعلى هذا الأساس تعتبر الأحلام مفتاح الخلق والإبداع.
وبعض النظريات تعتقد أن الأحلام تجهزنا لمواجهة المخاطر والتهديدات، وهذا يفسر الكثير من المشاعر السلبية السائدة أثناء الأحلام، ويرون أن الأحلام تحمل في مضمونها رسائل من لا يحترمها قد يخاطر بمستقبله، فالدماغ أثناء النوم يقوم بمحاكاة الخطر أو القلق الذي يهدد الإنسان في حياته والذي يحاول العقل الواعي أن يتجاهله فيفرضه عليه العقل اللاواعي في المنام ليحذره ويهيئه ويجعله أكثر استعداداً لمواجهة هذا الخطر في عالم الواقع، وهذا ما ذهب إليه علماء كثيرون منهم ألفريد أدلر وهو أحد تلاميذ فرويد.
وفي مقال قادم بإذن الله، سنستعرض المزيد من النظريات العلمية عن الأحلام، إضافة إلى نظرة الإسلام للرؤى والأحلام، وما يتعلق بتعبير الرؤى وتفسير الأحلام.