المشكلة أننا نلقن الطلاب ونحفظهم الإجابات التي نود سماعها عن الإسلام، دون أن نمس ملكات التفكير لديهم حتى يصلوا بأنفسهم إلى حقيقة وسطية الدين الإسلامي
نتحدث اليوم بإسهاب عن جرائم داعش، وبالأمس عن الهجمات الإرهابية في الرياض، وأحداث سبتمبر، وعن التطرف الفكري فيما يخص القضايا الدينية على وجه الخصوص. توجد العديد من التنظيمات التي تشتهر بممارسة نسختها الخاصة من الإسلام السياسي فلا يتغير علينا سوى اسمها وطبيعة الجرائم التي ترتكب بحق البشرية، ويربطها بشكل واضح التطرف الفكري وقصور في فهم الدين.
توجد العديد من التحليلات السياسية المختلفة فيما يخص التطرف مع إجماع العديد من المفكرين بأن محاربة تنظيم مثل داعش لا يتم فقط من خلال قتل أفراد هذا التنظيم بحد ذاته، إنما في قتل فكرهم الذي يمثل تربة خصبة لمزيد من التنظيمات الإرهابية في المستقبل. بالنسبة للمجتمع السعودي، فقد قامت بالعديد من الجهود ابتداء من تغيير المناهج بعد أحداث سبتمبر مع إقامة العديد من المراكز والفعاليات مثل مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ومركز الملك عبدالله لحوار الأديان، وغيرها من الخطب والأنشطة التي تدحض التطرف وتشجع الوسطية والاعتدال. حاليا لا توجد دراسات وطنية لمسح آراء المواطنين فيما يخص مواقفهم من غير المسلمين، فيما يخص الطائفية والأحداث السياسية بهدف معرفة مدى تقدمنا في إيجاد الفكر الوسطي الذي طالما كنا نصبو إليه. إلا أننا لا نستطيع إنكار وجود بذور لهذا الفكر التطرفي بيننا، مع عدم قدرتنا على التعايش مع أي مدرسة دينية فكرية مخالفة لما تنصه مناهجنا.
انضمام بعضنا وتأييد البعض الآخر لتنظيم داعش مع الإيمان بأن ما يقوم به هذا التنظيم فعلا يمثل الدين وما ينصه القرآن دليل على قصور الفهم المتفشي، وبأن جهودنا السابقة لم تمس جوهر المشكلة بشكل جذري. تغيير الفكر الداعشي الموجود لدى البعض قد لا يتم بالاكتفاء بالجهود الوطنية الواسعة بل يتطلب الإصلاح بشكل كبيرعلى مستوى الفرد أيضا. التغيير والإصلاح الفكري الديني المتطرف على مستوى الفرد لا يتم إلا عبر بوابة المدرسة والمنزل التي نغفل عنها عند الحديث في المواضيع السياسية والدينية. أحد أهم الأخطاء التي لا نزال نقع بها عند رغبتنا في الإصلاح على مستوى الفرد هو تجنبنا بشكل غريب لتنمية شخصيات وعقول مستقلة تفكر بذاتها في أمورها الاجتماعية والدينية. حتى عندما تم حذف بعض الدروس، والحديث بشكل علني عن التسامح والتعايش مع الغير في المنهج، إلا أن الوسطية لا تزال تبعد كل البعد عنا في كافة أمورنا ونقاشاتنا. المشكلة أننا نلقن الطلاب ونحفظهم الإجابات التي نود أن نسمعهم يرددوها عن الإسلام دون أن نمس ملكات التفكير لديهم حتى يصلوا بأنفسهم إلى حقيقة وسطية الدين الإسلامي. يؤدي ذلك إلى تشكيل أساس ديني ظاهره قوي وباطنه هش لدى البعض من أبنائنا، بحيث يغرينا العدد الكبير للحصص الدينية دون الالتفات للمحتوى الذي نقدمه وممارساتنا اليومية التي لا تدعم الاعتدال والوسطية. يؤدي ذلك أيضا إلى وصول رسالة هشة ومشوهة لدى الطالب لا تستطيع الصمود طويلا في وجه أي مناظرة، ويربكها أي تحدٍّ متطرف سواء في الجانب الديني أو السياسي وما إلى ذلك.
لا يمكننا ترديد عبارات التسامح وحفظ إجابات جديدة تنتمي للفكر الوسطي ومن ثم الاعتقاد والتوهم أننا نجحنا في مكافحة التطرف. ما نقوم به فعليا هو صناعة غطاء جديد للأساس الضعيف نفسه الذي لا يستطيع مقاومة النقاشات والمناظرات القائمة على الحجة والبرهان. قد نقوم بتمارين عصف ذهني ومناظرات علمية في مدارسنا، وقد يقوم أولياء الأمور بمناقشة أبنائهم في المواضيع الحساسة، لكن عادة ما يجب أن تسير نتيجة كل ذلك في مسار الإجابة الصحيحة الواحدة نفسها التي لا تتغير ولا تراعي أي مذهب أو ثقافة مختلفة.
أحد أسباب تعاملنا باستحياء عند الحديث عن التوجهات الدينية المختلفة في المملكة بتفتح هو عدم تدريب معلمينا على مواجهة هذه الاختلافات في الصف الواحد دون الوقوع في أي مأزق محرج. في الوقت نفسه، عدم خوضنا لمثل هذه النقاشات لا يعني عدم وجود الصراع الفكري في القضايا الدينية السياسية. جوهر المشكلة يكمن في اكتفائنا بظواهر الأمور مثل الفعاليات والمؤتمرات الكبيرة، مع تسليط الضوء عليها في كافة وسائل الإعلام دون إحداث أي تغيير حقيقي في سياسة التعليم ومخرجاته وتعاملنا مع التوجه الديني في المدرسة. تغيير هذا الفكر وإنهاء التطرف يتطلب الوقت والصبر حتى نرى النتائج في ممارسات ومعتقدات مجتمعنا، لكن إن لم يتم سلك الطريق الصحيح الآن، فسنتحدث غدا عن تنظيم إرهابي متطرف جديد ينتحر فيه أبناؤنا باسم الدين مجددا.