الموظفون يتعرضون لعقوبات تأديبية بلا ضوابط ولا ضمانات، مما يفقدهم الطمأنينة والعمل في هدوء واستقرار نفسي، الأمر الذي ينعكس سلبا على أدائهم الوظيفي، فضلاً عن إهدار كرامتهم

تنص المادة (35) من نظام تأديب الموظفين على أنه لا يجوز توقيع عقوبة تأديبية على الموظف إلا بعد التحقيق معه كتابة وسماع أقواله وتحقيق دفاعه وإثبات ذلك في القرار الصادر بالعقاب أو في محضر مرفق به، وبالتالي فإن التحقيق الإداري هو أساس قرار العقوبة على الموظف وبدونه يبطل هذا القرار حيث يوصف بعدم المشروعية.
ولا يكفي لصحة قرار العقوبة أن يكون مستنداً في صدوره إلى تحقيق إداري وحسب، وإنما يتعين أن يكون هذا التحقيق مستوفيا كافة الشروط والمقومات التي تضمن أن يكون هذا التحقيق وسيلة حقيقية للكشف عن حقيقة المخالفات التي ارتكبها الموظف الحكومي.
وعلى هذا الأساس، فإنه من المتعين أن يتم التحقيق الإداري مع الموظف الحكومي وفق ضوابط شكلية وإجرائية قصد بها أن تشكل ضمانات للمحال للتحقيق وحفظ حقوقه، بحيث يؤدي الإخلال بهذه الإجراءات إلى بطلان التحقيق، ويمتد أثر هذا البطلان إلى قرار العقوبة الصادر استنادا إلى هذا التحقيق.
والتحقيق الإداري إما أن يكون رئاسيا، أي تتولاه الجهة الحكومية التي يتبعها الموظف، أو يكون تحقيقا يتم بواسطة النيابة الإدارية متمثلة في هيئة الرقابة والتحقيق، والسؤال المطروح هنا: ما هي الضمانات الإجرائية للتحقيق الإداري، خاصةً إذا علمنا أن عملية التحقيق نفسها تستخدم كوسيلة لتخويف وترهيب الموظفين أو الانتقام منهم لأي سبب كان في بعض الجهات الحكومية؟
بالرجوع إلى مواد نظام تأديب الموظفين، نجد أنها تطرقت بشكل مقتضب إلى الضمانات الشكلية فقط دون الإجرائية، فيما يتعلق بهيئة الرقابة والتحقيق، أي البيانات الشكلية في محاضر التحقيق، والتي ليست جوهرية بطبيعتها، ومن ثم لا يترتب على إهمال أي منها البطلان التلقائي للتحقيق، وذلك في المادة (11) والتي تنص على أن يكون التحقيق كتابة ويثبت في محضر أو محاضر مسلسلة يبين فيها تاريخ ومكان وساعة افتتاحه وإتمامه وتذيل كل ورقة من أوراق التحقيق بتوقيع من تولى التحقيق ولا يجوز الشطب أو التعديل في أوراق محاضر التحقيق، وتسري أيضاً هذه القواعد الشكلية على التحقيق إذا تم بواسطة الجهة الحكومية نفسها.
أما فيما يتعلق بإجراءات التحقيق، فقد تم الاكتفاء بإشارات بسيطة إليها في الباب الثالث من اللائحة الداخلية لهيئة الرقابة والتحقيق، في المواد (9-17)، ومنها على سبيل المثال، ما يلي:
• عدم استخدام أسلوب الوعد أو الوعيد مع المتهم أو الضغط على المتهم أو المخالف.
• إحاطة المخالف علما بالتهمة المنسوبة إليه، والأدلة القائمة ضده حتى يتمكن من الرد عليها.
• لا يجوز للمحقق إبداء الرأي قبل استجواب الموظف وسماع الشهود واستكمال جميع عناصر القضية وقفل التحقيق.
أما بالنسبة للجهات الحكومية التي تقوم بإجراءات التحقيق مع موظفيها، فلم يتعرّض نظام الخدمة المدنية لضمانات إجراءات التحقيق، ولكن يتم الاستناد العرفي لما هو متبع أمام هيئة الرقابة والتحقيق، مع الاستعانة بنظام تأديب الموظفين واللائحة الداخلية للهيئة.
هذا الفراغ التشريعي بالإضافة إلى ضعف الثقافة القانونية لكثير من الموظفين، أدّى إلى وجود ممارسات خاطئة وتعسّفية في إجراءات التحقيق في بعض الجهات الحكومية، إلى درجة إجراء التحقيق في ظل عدم وجود تهمة أو مخالفة إدارية من الأساس، بل يتم التحقيق حتى يتم خلق تهمة للموظف.
وأصبح التحقيق وسيلة تخويف وترهيب للموظفين، مع أن المفترض أن يكون حماية لحقوقهم وحرياتهم، فأصبح هناك اعتقاد سائد لبعض المسؤولين بأن التحقيق هو وسيلة لإيقاع العقوبة على الموظف بناءً على توصيات إدارة المتابعة أو الإدارة القانونية، وبالتالي إعفاؤهم من المسؤولية في حال إصدار العقوبة من قبلهم.
ونتيجة لذلك هناك خروقات واضحة لإجراءات التحقيق، تتمثل في البدء باستدعاء المتهم، فإما أن يكون هذا الاستدعاء شفهياً، أو بخطاب رسمي ولكن لا يتضمن أسباب الاستدعاء أو بيانا بالتهمة الموجهة إلى الموظف، هذه الممارسة لوحدها فقط كفيلة ببطلان قرار العقوبة برمته بالرغم من أنه إجراء أولي حتى وإن ثبتت التهمة بالأدلة القاطعة.
ومن الإجراءات الجوهرية أيضاً بالنسبة للتحقيق، مواجهة الموظف بالتهم المنسوبة إليه بكل وضوح، وبأسئلة صريحة ومباشرة، مع إحاطته علماً بكافة الأدلة التي تشير إلى ارتكابه للمخالفات حتى يكون على علم بخطورة موقفه وحتى يدافع عن نفسه، ولكن في بعض الجهات الحكومية تتم صياغة أسئلة التحقيق بأسلوب يتضمن إيحاء بإجابة معينة حتى يتم الإيقاع بالموظف، وتكون أدلة الإثبات في الغالب عبارة عن محضر مكتوب من قبل المدير الإداري أو المشرف دون وجود مستندات ثبوتية، وفي حال وجودها لا يتم اطلاع الموظف عليها بحجة أن ذلك ليس من حقه! وعليه فإن مثل هذا التحقيق يعد باطلاً لإخلاله بضمانة جوهرية.
إذا كان الاستجواب يعد وسيلة دفاع وضمانة إجرائية مقررة لصالح الموظف، يمكن فيها من إبداء دفاعه بحرية كاملة في الاتهام المسند إليه، فإن بعض الجهات الحكومية تمارس أسلوبا سافرا بالتدخل في إجابات المتهم، يصل إلى حد الإملاء عليه إما بحجة أن ذلك من صالحه، أو أن إجابته سوف تدينه أكثر وتثبت التهمة بحقه أو منعه من كتابة دفوعاته بأي وسيلة كانت!
وبناءً على الممارسات السابقة، فإن الموظفين يتعرضون لعقوبات تأديبية بلا ضوابط ولا ضمانات، مما يفقدهم الطمأنينة والعمل في هدوء واستقرار نفسي، الأمر الذي ينعكس سلباً على أدائهم الوظيفي فضلاً عن إهدار كرامتهم وإهانتهم كمواطنين قبل أن يكونوا موظفين، لذا من الضروري تفعيل ضمانات التحقيق والنظر في إصدار لائحة بهذا الخصوص، وبالطبع لن تكون هذه اللائحة مؤثرة إلا بوعي الموظفين بارتباط حقوقهم بها، حيث يمثل هذا الوعي الضمانة الأساسية في مواجهة تجاوزات الإدارة وتعسفها في مرحلة التحقيق.