رحل سميح القاسم، ولكن إبداعه لم يرحل، وسيرته العطرة الحافلة بالنضال لم ترحل، وأدبه سيبقى خالدا كما أدب عشرات المبدعين الفلسطينيين، الذين بقيت عطاءاتهم في القلب من المشروع الوطني الفلسطيني
منذ وعد بلفور، واستمرارا بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، تمهيدا لوضعه قيد التنفيذ، وإلى يومنا هذا، لعب الأدب المقاوم دورا رئيسا في شحذ الهمم لمناهضة المشروع الصهيوني. وشهدت الساحة الفلسطينية شعراء مبدعين، سجلوا كفاح الشعب الفلسطيني، وأسهموا في رفع الهمم. من بينهم هارون رشيد وإبراهيم طوقان وفدوى طوقان وعلي محمود طه، ومعين بسيسو.. لكن الشعر المقاوم المعاصر، ارتبط بنشوء حركة فتح، في نهاية الخمسينات، ولاحقا الدور المركزي الذي لعبته منظمة التحرير الفلسطينية منذ بداية سبعينات القرن المنصرم، وتتويجها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
الشعر المقاوم المعاصر ارتبط بثلاثة من الشعراء العمالقة، محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، وبالمقاومة التي أشعلتها حركة فتح. ولم يكتفوا بالإبداع الشعري، بل أصبحوا ناشطين سياسيين. وغدت قصائدهم أغنيات للثورة الفلسطينية المعاصرة. رحل زياد ودرويش، وتركا إضافة إلى إبداعاتهما، جدلا محتدما حول علاقتهما بحزب راكاح الإسرائيلي. كما احتدم جدل آخر، حول تأييد محمود درويش للتسوية، ولاتفاقية أوسلو، وحضوره مع صهاينة في المؤتمر الاقتصادي الذي عقد على ضفاف البحر الميت.
في التاسع عشر من هذا الشهر، أغسطس 2014، وبعد مرض عضال، استمر أكثر من ثلاث سنوات، رحل ثالث عمالقة الشعر الفلسطيني المقاوم، سميح القاسم، بعد أن قدم زادا وفيرا تجاوز السبعين كتابا للمكتبة العربية، تناول الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة.
أسهم الفقيد في تحرير جريدتي الغد والاتحاد. كما شغل رئاسة تحرير جريدة هذا العالم عام 1966. وعمل أمينا عاما لتحرير مجلة الجديد، ثمَّ رئيسا لتحريرها. وأدار فيما بعد المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا. وأصبح في سنواته الأخيرة رئيس تحرير فخريا لصحيفة كل العرب، التي تصدر في الناصرة. وترأس اتحاد الكتاب العرب، والاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين.
برحيله تنتهي حقبة عمالقة شعر المقاومة الفلسطينية، الذين غنوا للأرض وللمقاومة والتحرير. عاش توفيق زياد وسميح القاسم في القلب من الأرض المحتلة، في الرامة وصفد والناصرة، بينما شهد درويش حياة المنافي والترحال.
ارتبط سميح القاسم بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، لكن ذلك لم يمثل حاجزا يحول دون تأييده للنضال الفلسطيني، وحركة المقاومة ولاستراتيجية الكفاح المسلح، التي تنبتها حركة فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما لم يحل انتماؤه الأممي دون اعتداده بانتمائه القومي العربي. وكان انتماؤه، كما وصفه بنفسه، توليفة من انتماء إنساني أممي، وانتماء قومي عروبي، وطني خالص لفلسطين.
إن الفقيد لا يتردد في التعبير بصراحة عن أن له وطنين. وطن صغير يمتد من النهر إلى البحر، هو فلسطين، ووطن آخر يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، هو الأمة العربية. إنه بهذا التوصيف يحذر من الوقوع في شرك تصنيف شعراء المقاومة، بناء على ارتباطهم براكاح. لقد واجه هؤلاء الشعراء قمعا وحشيا، وحرمانا من التعبير عن أنفسهم، وحجب عنهم حق تأسيس المنظمات والأحزاب السياسية.
إن حزب راكاح كان الوحيد بين الأحزاب الإسرائيلية، الذي حمل توجها سياسيا معاديا للعقيدة الصهيونية وللحركة التي تمثلها، ولذلك كان المنبر الوحيد المتاح للناشطين الفلسطينيين للتعبير عن آرائهم السياسية. وعلى هذا الأساس فإن الانتماء لراكاح لم يكن انتماء أيديولوجيا، بل انتماء سياسي من وجهة نظر فقيدنا الراحـل وبقيـة شـعراء المقاومة الذين ارتبطوا بهذا الحزب.
وهكذا بقيت حالة الانفصام بين الارتباط بحزب إسرائيلي هو حزب راكاح، وبين النضال من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين، وتجسيد ذلك في تأييد الكفاح المسلح الذي قادته حركة فتح منذ نهاية الخمسينات، من القرن المنصرم، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وتعزز ذلك بانتماء أعلى، هو الانتماء للأمة العربية، والإيمان بحقها في الوحدة والتقدم والنهوض.
ظل سميح القاسم يغني للأرض، ورفع صوته عاليا من أجل التحرير، منتصب القامة، مرفوع الهامة، وبيده قصفة من الزيتون، حاملا نعشه على كتفه. وكان طبيعيا أمام هذا الإصرار على المضي في طريق الكفاح، أن يتعرض الفقيد للتضييق عليه من قبل قوات الاحتلال، وأن يعتقل أكثر من مرة، وأن يوضع رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنزلي. وكان مصيره أيضا، الطرد مِن عمله عدة مرات بسبب شعره المقاوم، ونشاطه السياسي، وأن يواجه أكثر من تهديد بالقتل. لقد عكس شعر القاسم التوليفة التي فصلها بآفاقها الإنسانية والقومية والوطنية، مجسدا في نصوصه، الكبرياء والإباء، وكبرياء النص، بحسب توصيف أقرانه.
عاش الفقيد القاسم جل حياته في الداخل الفلسطيني، فبعد مولده بمدينة الزرقاء الأردنية، انتقل إلى بلده الأصل، الرامة الفلسطينية بالجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية والثانوية في مدينة الناصرة، وبدأ حياته معلما ومناضلا سياسيا. ولم يغادر موطنه إلا نادرا، ولأسباب تتعلق بالمشاركة في بعض المهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية في بلدان عربية وأوروبية.
نعاه رئيس حكومة الوحدة الفلسطينية، السيد رامي الحمد الله، واصفا إياه بأنه من أعظم الشعراء لأعظم وأعدل قضية، قضية فلسطين، قرن القول بالعمل، وربط الإبداع بالممارسة، فهو المناضل من أجل الحقوق الوطنية، والمناضل من أجل المساواة، والمناضل من أجل حقوق شعبه.. حق تقرير المصير، وحق العودة، وحق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
رحل الشاعر الكبير، ولكن إبداعه لم يرحل، وسيرته العطرة الحافلة بالكفاح والنضال لم ترحل، وأدبه سيبقى خالدا، كما أدب عشرات المبدعين الفلسطينيين، الذين بقيت عطاءاتهم، في القلب من المشروع الوطني الفلسطيني، تضيء الدرب، ويستلهم منها القوة والعزيمة.
كافح سميح القاسم ضد المرض طويلا، وأعلن أنه لا يحب الموت ولكنه لا يخافه، وأخيرا رحل عنا بجسده، وبقي بعطائه وإبداعه والتزامه، منتصب القامة. تغمد الله روح الفقيد برحمته، وألهم محبيه وذويه وأصدقائه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.