الإلحاد ظاهرة بدأت تتفشى بين الكثير، وتبني أفكارها على خجل وبتخبط لا هدف منه إلا التنصل من الدين والخلاص من القيود التي كبلت حياة الناس بسبب التشدد والتطرف الذي لا يجد معهما صاحب النفس المهزوزة أي خلاص إلا بتبني الفكر الإلحادي

برزت كلمة هرطقة في الديانة المسيحية في عصورها الأولى ثم اشتد أوارها في القرون الوسطى وتوسع استخدامها. وكانت تعني: كل انحراف ولو بسيط عن العقيدة. فكان كل من يخالف الكنيسة ومن يعترض على رأي لها يتهم بالهرطقة أو الزندقة، وقد تنال التهمة أيضًا من يتحدث عن أمور عقلية لا تتفق والنمط الكنسي، كالقول بكروية الأرض أو دوران الأرض حول الشمس مثلاً، يحاكم ويكون جزاؤه غالبًا الموت حرقًا أو تحت التعذيب. في القرن الحادي عشر، وتحديداً في عام1022، كانت أول محرقة ضد الهرطقة أقامها روبرت لو بيو لعشرة من رجال الدين من كاتدرائية أورليانز، ثم أصبحت مطاردة المهرطقين والمبتدعين عملا لا يقوم على الكنيسة فقط بل تقوم به الدولة بعد الاتفاق الشهير الذي تم بين فيرونا لوسيوس الثالث وفريدريك بربروسا عام 1184 وكان من أسباب تقوية الإمبراطورية.
ولأجل هذه الملاحقات للمنحرفين عقدياً في نظر الكنيسة ومعاقبتهم كما يجب، أنشئ ما عرف بمحاكم التفتيش التي يصب عملها في ملاحقة المهرطقين ومحاكمتهم وتعذيبهم أو حرقهم حتى الموت. وطال أذاها اليهود والمسلمين في الغرب الأوروبي وليس المسيحيين وحسب. هذه الأساليب العدائية الدامية من الكنيسة والجرائم والانتهاكات التي حدثت باسم الدين، ولم يسلم من تطرفها الناس البسطاء ولا المفكرون والعلماء والأدباء، كانت سبباً في خروج خط مضاد لها منذ نهايات القرن السابع عشر عرف واشتهر العديد من رموزه الذين اعتبروا الدين سبباً في تأخر البشرية وباباً نحو الدمار والحرائق الإنسانية. وظهرت تيارات أعلنت إنكارها واستقلالها عن فكرة الخالق الأعظم ووجوده وتحكمه في الكون. فالشاعر وليم بليك قال في قصائده على سبيل المثال: إن الدين أبعد الإنسان من إنسانيته بفرضه قوانين تعارض طبيعة البشر من ناحية الحرية والسعادة، وإن الدين جعل الإنسان يفقد حريته واعتماده على نفسه في تغيير واقعه. والفيلسوف آرثر شوبنهاور الذي اعتبر الأديان من صنيعة البشر، وكارل ماركس الذي قال عبارته الشهيرة: الدين أفيون الشعوب، ومختلف النظريات التي تبنتها أسماء شهيرة كداروين ونيتشه وفرويد وغيرهم.
هذا الخط المضاد للتطرف والتشدد الذي سيطر على الكنيسة وعرفت به خلال مئات السنين دفع إلى موجة حادة من الإلحاد بمختلف أنواعه وفلسفاته، وأصبح التحرر من الدين وأفكاره بوابة لإنقاذ ما تبقى من إنسانية داخل تلك الأنفس. هذا الجزء من التاريخ الكنسي المتراوح بين التطرف والإلحاد يخطر في البال مع ما نشاهد ونسمع من مد التطرف والتشدد الديني الذي بدأ منذ سنوات بعيدة بصور مختلفة بدءًا من حركة جهيمان وما تبعها من الخطاب الصحوي الذي اتخذ سبيله في مناحي حياتنا المختلفة، وأصبح أمراً مسلماً ومن يشذ عنه يُرمى بتهمة التكفير، مروراً بالسيطرة الإخوانية على التعليم الجامعي والعام ووصولاً إلى الحركات الإرهابية الحديثة كالقاعدة وداعش التي تبتلع أبناءنا المتشربة أذهانهم بهذا التطرف والمؤمنين به كقضية دينية ليس دونها إلا أرواحهم أو الجنة. تطرفٌ بدأ الإنسان فينا والوطن يجني علقمه وكوارثه.
خلال الأسبوع الماضي أوضح رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ عبداللطيف آل الشيخ أن هناك تحركاً بدأته أربع جهات رسمية، وهي بالإضافة إلى الهيئة: وزارة الداخلية وهيئة الاتصالات ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، يهدف هذا التحرك إلى التدخل في بعض الحسابات الإلحادية التي بلغت خلال الستة عشر شهراً الماضية 850 حساباً في مواقع التواصل الاجتماعية والبدء في إيقافها بسبب نشرها للفكر الإلحادي بين الشباب والبحث عمن يقف وراءها.
جاء حديث آل الشيخ هذا في سياق تعليقه على الإحصائية التي نشرتها مؤسسة جالوب عن الإلحاد في الشرق الأوسط والذي وُضعت فيه المملكة العربية السعودية على رأس القائمة في الدول العربية والإسلامية بالرغم من كونها محضن الإسلام وممثلته عبر العالم. وبغض النظر عن مدى صحة هذه الإحصائية المشكوك فيها أو خطئها، فإن الإلحاد ظاهرة بدأت تتفشى ونلاحظ انتشارها بين الكثير، وتبني أفكارها على خجل وبتخبط لا هدف منه إلا التنصل من الدين والفكاك من كهنوت بعض تعاليمه والخلاص من القيود التي كبلت حياة الناس مع التشدد والتطرف الذي لا يجد معه صاحب النفس المهزوزة أي خلاص إلا بتبني الفكر الإلحادي.
إن الاستخفاف بمثل هذه الموجة من الإلحاد قد يؤدي في النهاية وربما بعد بضع سنين إلى نتائج مشابهة لما فعلت موجة التطرف التي شهدتها هذه البلاد من السيطرة ثم البحث عن طرق للنجاة من الغرق فيها أكثر. فالنشء الذي يجد نفسه بين نار داعش وأفكارها التي نراها في مناهجنا وصيرورة حياتنا اليومية إما أن يجاهر بالولاء لها واللحاق بركابها التي تعيث فساداً في البلاد الآن، أو أن يحاول الخلاص منها بما أوتي من طرق، ومادام وعيه منخفضاً وأساليب الإرشاد التعليمي والنفسي لدينا بدائية أو منعدمة فإنه يبتكر أساليبه الخاصة في البحث والقراءة والتحري عن أي مخرج ولو بالتقليد وإسلام عقله لأول نافذة تلوّح له سواء كانت تقوده إلى جحيم تقف عليه حوريات مزعومات أو حريّات مشبوهة.
الاعتراف بالمشكلة بداية أي حل، ثم الاتفاق على بديهيات ينبغي مراعاتها في حركة الإصلاح التي اُستنفرت لها العديد من الحملات والوزارات للخروج بالوطن من عنق الزجاجة الذي نختنق به هو الخطوة الثانية، ثم الحزم في تخليص البلاد والعباد من أسباب التطرف التي نخشى أن تقود إلى طوفان كبير نعجز عن تسيير مراكب الوسطية والاعتدال، فيبتلع جميع المحاولات ويعيد التاريخ أحداثه فتسيطر محاكم التفتيش الداعشية على الحياة لتنتهي الأمور بشكل نكاد نعرف ملامحه ونتنبأ به إن لم نحافظ على هويتنا الإسلامية وما تمثله من وسطية واعتدال.