مشكلة الفكر الديني المتطرف والمؤدلج أنه عبارة عن منظومة حلقات، كل حلقة تلد حلقة أخرى أقل منها سعة وأشد منها ضيقاً؛ حتى يخنق ذاته بذاته، بعد أن يخنق كل من حوله
عندما وجه خادم الحرمين الشريفين كلمته، لعلماء الدين الأفاضل، بأن يتركوا الكسل عنهم، ويعملوا على إدانة الإرهاب وكل أشكال العنف، التي ترتكب باسم ديننا السمح الحنيف؛ لم يكن يقصد العلماء وحدهم، ولكن كان يقصدنا جميعاً مثقفين وأكاديميين متخصصين، وكتابا ودعاة ووعاظا، لأننا نمثل سندا لإيضاح الصورة، وما يجري على الأرض، للعلماء الذين لا يتسع وقتهم للإلمام بكل ما يجري من حولهم، من أحداث وتقلبات وتغيرات متتالية ومتسارعة.
وعلى هذا الأساس فترك الكسل والتشمير عن السواعد وشن حملة شعواء على الإرهاب والتطرف؛ هي واجب كل من يستطيع كشف وفضح ومحاربة التشدد والتطرف والإرهاب، من ذوي العقول السليمة والثقافات النيرة، ومحبي الإنسان والسلام، مهما كان هذا الإنسان، وأين وجد. كانت حدود الوطن، تمثل حدوده الجغرافية المعروفة؛ أما اليوم فحدود الوطن كل شبر فيه. وكل شبر فيه يحتاج إلى دفاعات قوية تصونه وتحميه من أي اختراقات داخلية أو خارجية؛ تسعى لتفكيكه والنيل منه، حسب أجندات مرسومة خارجية أو داخلية.
إننا الآن بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى، إلى فتح المجال على مصراعيه لعملية عصف ذهني سريع، شامل وملم وكامل؛ للبحث عن أسباب ومسببات التشدد الذي بدوره أدى بنا إلى التطرف، الذي بالنهاية أوصل بعض أبنائنا إلى ما هم فيه من إرهاب، يحيط بنا من كل حدب وصوب. ولهذا وبنبرة صادقة وجادة، طلب منا خادم الحرمين الشريفين التشمير عن سواعدنا ومكافحة الإرهاب، بل محاربته أين ما كان وأينما وجد، وعلى أي شاكلة تمظهر. ومن ضروريات إنجاح هذا العصف الذهني؛ رفع سقف حرية النقاش والجدال، وأخذها بعين الاعتبار، كاجتهادات قابلة للأخذ والرد والعطاء، حيث الصواب يولد من رحم الخطأ. فمن المعروف أن دهاقنة التشدد والتطرف والإرهاب، قد ضيقوا سقف حرية النقاش أو المساءلة لقواعدهم الفقهية والشرعية المتشددة والمتطرفة، التي يستندون بتشددهم وتطرفهم وإرهابهم عليها. لا بل وحصروا أحقية النقاش في ذلك بينهم لا غير، من باب الأخذ من أهل الذكر والتخصص. لا بل أرهبوا كل من يقترب من مساءلتهم أو مناقشتهم بتهم الخروج من الدين والردة والزندقة، المؤدية لحز الرقاب وجز الرؤوس. وهكذا حمى التشدد والتطرف والإرهاب نفسه وغذاه، بتسليح ذاته وتحصينها، وتجريد الآخر من سلاحه وحصانته؛ وهكذا ضمن إعادة إنتاج ذاته، رغما عن الجميع.
ومن هنا، يجب الأخذ بعين الاعتبار، أن مشكلة الفكر الديني المتطرف والمتأدلج بشكل عام، والمتسيس بشكل خاص، أنه يضيق تلقائياً من ذاته وعلى ذاته، حتى ومن دون تدخل خارجي يحرضه على ذلك. حيث هو عبارة عن منظومة حلقات، كل حلقة تلد حلقة أقل منها سعة وأشد منها ضيقاً؛ حتى يخنق ذاته بذاته، بعد أن يخنق كل من حوله؛ وذلك بسبب تمسك وتقديس المتشدد والمتأدلج دينياً، بتعاليم واجتهادات من سبقوه، برغم كونها تمثل الماضي، وجعلها مشروعه الحاضر والمستقبلي؛ الذي يريد أطر كل من حوله، حاكما كان أم محكوما على الأخذ به واتباعه، وإلا التهديد بالويل والثبور والدفن في القبور، لكل من شكك فيه أو بعقله، ناهيك عن نواياه.
فمثلاً، عندما يأخذ المتشدد مسألة فقهية فيها تشدد عما قبله، من مراجعه الشرعية السالفة؛ فلكي توائم العصر، لا بد أن يعيد صياغتها لما يخدم الواقع الحاضر. ولذلك يكون أمامه حلان، إما أن يفتح المسألة لتواكب العصر، وإما أن يضيقها تحوطاً وحرصا أكثر مما كانت عليه سابقاً. فإن هو فتح المسألة ويسر بها للناس؛ فإنه سيتهم من قبل دائرته المتشددة الضيقة بالتهاون؛ ولذلك يكون الحل الوحيد الممكن أمامه هو التضييق أكثر في المسألة عما كانت عليه من ضيق، حتى لا يتعرض للنقد أو القدح ومن ثم الهجر والطرد من دهاقنة دائرته المتشددة الضيقة؛ لا بل ويثبت نفسه كمرجع من مراجعها المعتبرين في مجال الفتيا. وهذا ما قصدته في مسألة أن دوائر التشدد تضيق من ذاتها وعلى ذاتها مع تقادم الزمن؛ حتى تخنق جميع من حولها؛ قبل أن تخنق نفسها.
وعلى هذا الأساس، بدأت تخرج دوائر أكثر تشددا من رحم دوائر التشدد، تكفر بعضها بعضا بل تحارب بعضها بعضا وبشراسة وقساوة أكثر مما تحارب خصومها، مِمن هم خارج دائرتها المتشددة. إذًا فكل من ينتمي إلى دائرة تشدد، مهما تنطع بتسامحها ووسطيتها؛ يجب أن يكون خارج الحل؛ حيث هو يمثل جزءا من المشكلة، لا حلها؛ مهما هاجم الدوائر الأكثر تشدداً من دائرته. فالفكر المتشدد الذي يطرح نفسه كوسطية وتسامح؛ ينطلق من منطلقات واحدة خارجة عن روح العصر والمنطق وحتى التاريخ. ولكنه يختلف فقط في مسألة التوقيت أو طريقة التطبيق لا في مسألة الجوهر. فمثلاً، تنظيم الإخوان المسلمون، يؤمن بمبدأ الخلاقة الإسلامية، ولكن من خلال مبدأ الإعداد والتمكين؛ ولكن داعش تؤمن بتطبيق الخلافة في أسرع وقت، تسيطر فيه على مساحة من الأرض ومجموعة من الناس، وجيش يضرب باسمها بيد من حديد. وقد غضبت وحاربت جبهة النصرة داعش عندما أعلنت الأخيرة قيام دولة الخلاقة؛ حيث باغتتها بسحب البساط من تحتها. كما أن حزب التحرير الإسلامي يعيش وهم إمكانية قيام الخلاقة الإسلامية نظرياً، وبطريقته وأسلوبه الخاص به.
إذًا، إذا كان الجوهر المحرك لكل من داعش والإخوان المسلمين وجبهة النصرة وحزب التحرير وغيرها من تنظيمات إسلامية واحد؛ إذاً فالفرق بينها لا يكمن بالجوهر وإنما بالتفاصيل. إذاً فخطورة التنظيمات الإسلامية المتشددة و(غير المتشددة )، هي واحدة، حيث تحركها جميعها مبادئ جوهرية واحدة وأهداف واحدة؛ لا تختلف بعضها عن بعض سوى في التناول والتطبيق أو التوقيت.
إذاً -وركزوا على إذاً- ليس هنالك تنظيم إسلامي متشدد أو متسامح وسطي أو متطرف؛ فجميعها، إن لم تكن قد وصلت إلى التطرف والإرهاب فهي تسعى إلى الوصول إليه، حيث الأهداف التي تصبو إليها واحدة، وهي الوصول إلى السلطة وتطبيق شرع الله، وإقامة الخلافة والعدل على الأرض، وإعلان الجهاد على من سواها، مسلما كان أو غير مسلم. فحتماً ليست هنالك مشاريع حضارية ولا حتى مدنية متواضعة للتنظيمات الإسلامية؛ وإنما مشروعها الوحيد، هو سحب الماضي على الحاضر وتطبيقه عليه، بقضه وقضيضه؛ والمتمثل في ما تفعله داعش وجبهة النصرة وغيرهما على الأرض في سورية والعراق.
إذاً فمحاربة التنظيمات الإسلامية عسكرياً، برغم أهميته ووجوب فعله، إلا أنه ليس بكاف، ولا مفيد بحد ذاته. وإنما يجب محاربة المبادئ والمفاهيم الدينية المبدئية التي ترتكز عليها التنظيمات الإسلامية وتحركها؛ وتهدف إلى تطبيقها على الأرض، والتي من خلالها تكتسب شرعيتها الجماهيرية وتجند أتباعها؛ مثل الخلاقة الإسلامية وتطبيق الشريعة والولاء والبراء والجهاد ودار الإسلام ودار الكفر أو الحرب؛ حيث كل هذه المفاهيم لا تستقيم حياتياً ولا حضارياً في القرن الواحد والعشرين. وعلى هذا الأساس وانطلاقا منه؛ يجب محاربة ومكافحة التنظيمات الإرهابية التي تعمل على الأرض، وتلك التي تنتظر دورها.
اللهم إن خادم الحرمين قد بلغ، ونحن والعالم شهداء على ذلك. اللهم فاحفظه لنا، ليقينا بعونك وقدرتك، شرور الإرهاب وأهله وفكره.