مع اتساع استخدام وتوظيف العولمة والقرية الكونية، بدأنا نسمع لمصطلحات 'المجتمع الدولي' و'الأسرة الدولية' وقد تبدو تلك هويات هلامية ومرنة، ولكنها في الواقع أول خطوة باتجاه تحديد وتأطير الهوية الإنسانية

لم تكن الهوية فكرة سطحية تتعلق بالمظهر أو الشكل الخارجي للفرد وسلوكه الثقافي ونمطه الاجتماعي، وإنما هي ميكانيزمات ترتبط بالجوهر الذاتي، وتغوص عميقا في الشخصية لتحدد ماهيتها، وبالتالي فإننا أمام متغيرات وعمليات تفاعلية معقدة تصنع الصورة النهائية الشاملة للفرد من جهة والجماعة من جهة أخرى، يدخل في تلك المتغيرات متعلقات الدين والأعراف والتقاليد الاجتماعية، وفي بعض المجتمعات يمكن أن يكون الدين نمطا اجتماعيا مخصوصا بطقوس معينة تلزم المجتمع وأفراده، وتشكل بالتالي أول مظاهر هويتهم النهائية.
الفيلسوف الفرنسي رينيه لوسين اشتغل كثيرا بالذات والماهية، وله جهده الذي يجدر التوقف عنده ومراجعته لما يحمله من رؤى متقدمة في هذا السياق، يقول في إدراك الإنسان تبعا لكونه يعرف نفسه من داخل، أو يعرفه غيره من خارج حين يدرك الإنسان نفسه من داخل يراها ذاتا لا تنقسم، منها تنبع الأفكار والعواطف والأعمال، وحين يدركه غيره من خارج يراه مجموعة من التعيينات والعلاقات، أي يراه سلوكا يخضع لقوانين ويمكن قياسه.
ذلك يعيدنا في بحثنا عن الهوية إلى دائرة نفسية وذاتية بالكامل؛ لأن إمكانية القياس التي انتهى إليها لوسين تضعنا في وضع واقعي للغاية، وذلك ما نهدف إليه لتأكيد الأبعاد الواقعية لمسألة الهوية، فنحن لا يمكن أن نقيس أمرا متوهما أو غير حقيقي، ولا يمكن للهوية أن تكون كذلك، مما يجعلها قابلة للقياس والتحقق المنطقي وإثباتها كنظرية سلوكية أو ثقافية أو أيدلوجية.
ودائما ما ترتبط الهوية بالمتغيرات، اجتماعية ذاتية ترتبط بفكر الفرد ودينية، ولا نميل إلى إضافة ما هو سياسي أو ثقافي؛ لأن تلك أمور مكتسبة بعد الوعي والإدراك وليست أصيلة في فطرة الإنسان وجيناته كما هو في النمطين الاجتماعي والديني، وعدا هذين النمطين يمكن أن نقرر بصورة مبدئية أنه يأتي في إطار الاتجاهات أو الأفكار ولا يصلح أن يكون متغيرا أساسا في بناء الذات وفكرتها التي تعرّف بها وتخضعها لحيثيات واقعية، تكتسب معها ماهية غير قابلة للانزياح أو التبدّل، إذ قد يكون الفرد مسيحيا ويتحول إلى الإسلام، والعكس، أو محافظا يتحول إلى الانفتاح، والعكس، وهكذا من أحوال من الصعوبة معها قياس الهوية؛ لأنها لا تثبت وينتفي معها العمق العلمي للقياس المنهجي، الذي ينتهي إلى الحقيقة الأقرب إلى المثالية في نتائجها التي يمكن أن تقدم وتطرح أكثر التعريفات شمولا ودقة للهوية.
وأيا كانت قوة المتغيرات المتحركة في محيط الفرد والجماعة، فإن الهوية تبقى ثابتة تتراوح بين الديني والاجتماعي؛ لأن هذين النمطين هما الأكثر أصالة في الذات، وذلك ما يجعلنا نتفق مع المفكر داريوش شايجان في اتجاهه إلى أن التغيرات المتسارعة التي سببت الانقلابات الاجتماعية أتت لتفسد، بقوة الأمر الواقع، العادات المتأصلة وتشوش التقاليد العلمانية، مما أدى مباشرة إلى بروز الارتكاس القديم، ارتكاس الدفاع الذاتي. وجرت إزاحة القضايا عن سياقها التاريخي، وتوجيهها نحو المؤسسات الدينية بدل العمل على نقد الجذور التي تحملها، وأعيد أيضا تقويم فكرة التجديد البدعة وحكم عليها بأنها أكثر الأمور سوءا، وحين ننتزع من هذا الاقتباس النصي مصطلح التقاليد العلمانية فإنه يرمي إلى ذات المراوحة بين الديني والاجتماعي، فالتقاليد ذات دلالة اجتماعية، والعلمانية ذات دلالة دينية لا يقوم لها معنى دون الدين.
حسنا.. إننا بذلك نضع الهوية في مسار مزدوج بين الديني والاجتماعي، ونكاد نجزم بأنه لا يمكن حسم تعريفها وماهيتها دون وجود الارتباط الموضوعي المنهجي بهذين المسارين، وهي بعد ذلك يمكن أن تكون هوية فردية تستكشف ماهية الذات، أو جماعية تستوعب في متغيراتها أكبر قواسم مشتركة بين الجماعة المتجانسة بنسبة مناسبة يمكن أن تصف هويتها في الإطار الجمعي، وحين تكتمل عناصر تلك الهوية فإن دورها لا يقتصر على توصيف الفرد أو الجماعة، وإنما تضع قواعد وضوابط تدعم ماهيتهما، سواء كان ذلك في إطار أسري أو قبلي أو قطري أو إقليمي عرقي/ديني أو حتى دولي، مما يجعلنا نستشهد بقول الباحث حسن رشيق من أن الهوية الجماعية أيضا هوية آمرة، بمعنى أنها لا تحدد فقط من نكون، بل ما يجب علينا فعله، فنحن في واقعنا المعاصر، ومع اتساع استخدام وتوظيف العولمة والقرية الكونية، بدأنا نسمع تكرارا منظما لمصطلحات المجتمع الدولي والأسرة الدولية وقد تبدو تلك هويات هلامية ومرنة، ولكنها في الواقع أول خطوة باتجاه تحديد وتأطير الهوية الإنسانية الخالية من أي أدلجة للذات والمجتمعات.
إنها هوية الإنسان الكوني، ولعلي في مقال مقبل أستكمل الطرح في هذه الهوية.