الأمهات والآباء الذين يتعاملون بقسوة وبوحشية مع أطفالهم، لا شك أن منبع ذلك خلل نفسي، فهؤلاء يحتاجون بدورهم إلى الرعاية، وهم بالتأكيد لا يستحقون ممارسة أروع وأكثر المهن إسعادا لصاحبها
حدثتني صديقتي فقالت: دخلت على ابنتي صباح الأمس فدعتني إلى الجلوس معها، فقد وجدت حسابا في الانستجرام وصفته بالرائع، جلست بجانبها لا لرغبتي في النظر إلى الحساب، بل لرغبتي في الجلوس إليها والاستمتاع بذلك، ولكن سرعان ما لفت انتباهي أن الحساب في المجمل يعبر بالصور عن الحب، وبكل ما تعني الكلمة من معان سامية، حب الإنسان للخالق، وحب الوالدين لأبنائهم، وحب الأبناء للوالدين، حب الزوجة الهرمة لزوجها الهرم أو المعاق والعكس، الأمومة في الحيوانات وتعلق صغار الحيوانات بأمهاتهم، بل وحب الحيوانات للإنسان، حب الإنسان للرموز.. إلخ.
ولكن ما استوقفني حقا كان تعليقا على إحدى الصور والذي تحدث عن حب الأم، قائلا: إن حب الأم الزائد للأبناء يؤدي في النهاية إلى تحطيمها، فالأبناء لا محال سينسوها، ويكفي النظر في دار العجزة لنؤكد أن أكثر من فيها هم من الآباء والأمهات الذين قدموا الكثير لأبنائهم، وأضاف التعليق: إن أولويات الأمهات لا بد أن تكون لعبودية الله ثم لذواتهن، فليس من الحكمة أن تضع الأم أطفالها كخيار ثان بعد ربها ودينها، فتقدمهم على نفسها، وتتعلق بهم لدرجة أن حراكها سيكون مرتبطا بأنفاسهم.
الغريب في هذا التعليق أنه لم يدرك أن القضية وبكل بساطة تكمن في أن الوالدين وبشكل عام لا يملكان إلا ذلك، فالأمر ليس بيدهما، ثم إن حب الأم - بالذات- لأطفالها ووضعهم في أول أولوياتها بعد ربها سبحانه لا يعني تدليلهم ولا إفسادهم، بل رعايتهم والسهر على مصالحهم ومتابعتهم بزرع ثقتهم بالله الحي القيوم الوهاب الكريم سبحانه، القادر على إصلاح شأنهم مهما تعثرت أقدامهم، وبالتالي توجيههم إلى التعلق بالواحد الأحد القادر على صنع المعجزات، والتوكل عليه سبحانه بعد بذل ما في وسعهم لتغير مسارهم إلى الأفضل، فأنا أعجب ممن يستسلم أمام تراجع أبنائه وأمام فشلهم وكأنه غير محاسب على تخليه عن واجبه تجاههم.
ومن هنا لا بد أن أوضح أن الأبناء يدركون المشاعر السلبية التي توجه إليهم من الوالدين، وهي أوقع عليهم من الفشل نفسه، وأن تعامل الوالدين وخاصة الأم مع أبنائها وكأن أمرهم انتهى بسبب فشل أصابهم.. بمثابة المقبرة لطموحات كان من الممكن أن تثمر.
قد تكون المشكلة ليست في تعلق وحب الأم لأبنائها، بل في جهلها وضعفها وقلة حيلتها، فهي تجهل كيف تستثمرهما جيدا، فقد تندفع مدافعة عن أطفالها دون بينة، أو قد تسعى إلى تثبيط أبنائها مع يقينها أن الحق معهم.. لا لشيء، إلا لأنها تخاف عليهم ممن يقف أمامهم، فتزرع في نفوسهم الخوف والانهزامية، بل والنفاق.
أعجب من الأم التي تسعى إلى تنمية الخوف في نفوس أبنائها مدعية أن النجاح لن يتم إلا من خلال الانحناء الدائم لأي عاصفة، فالناس بطبيعتهم ظلمة، وهكذا لن يفرقوا بين الاحترام والخنوع.
أبناء أمثال هذه الأم إذا ما وصلوا إلى مركز القيادة سيتعاملون مع غيرهم على أنهم سادة ومن دونهم عبيد، وسيعتقدون أنهم قادرون على إيقاع الظلم على من هم تحت سلطتهم، سيعتقدون أنه ليس من حق أحد مراجعتهم، أو أن المقعد الذي يجلسون عليه لن يكون لغيرهم.
ثم قد تنشغل بعض الأمهات بتوفير الماديات دون التوقف عند حاجتهم للمعنويات، ودون العمل على مشاركتها لهمومهم، وقد تعتمد على حنانها دون عقلها، فتحرص على مواساتهم والوقوف في صفهم دون الاهتمام بتوجيه النصح لهم خشية إغضابهم؛ فالنصح قد يكون لاذعا ومؤلما في بعض الأحيان، فتختار الصمت أو الانصياع لهم بالجملة، والنتيجة قد تكون هلاكهم.
وإذا ما أردنا البحث عن أسباب هذا التكوين الإنساني فقد نجد خلفه أما أو أبا سعيا جاهدين إلى ترسيخ الذلة في نفوس أبنائهما كملاذ لإرضاء من بيده الأمر، وبالتالي نشأ الأبناء على أن من يقف على القمة لا بد أن يدوس على من تحته بالأقدام.
إن تعلق ورعاية الوالدين لأبنائهم على الأغلب أمران طبيعيان، ومن المحال تقليل هذه المشاعر أو تحجيمها، ولكن توجيهها الوجهة السليمة أمر مطلوب وواجب، ولو ترتب عليه بعض الحزم الذي سنجد أثره الإيجابي على الأبناء ولو بعد حين.
إن الأمومة والأبوة ليستا مهنتين اعتياديتين، فهما من الصعوبة بمكان، ولن ننجح كآباء وأمهات في مهامنا تجاه أبنائنا، وتجاه وطننا إلا بتفريغ معظم أوقاتنا لها، وتدبرها والتفكر فيها وبذل قصارى جهدنا لإنجاحها.
ولأنها من أعظم الواجبات بعد عبوديتنا لله سبحانه، مكننا الله منها ومكنها منا فكانت فطرة تجمعنا والكثير من المخلوقات، بل إن الواقع المشاهد يؤكد وجود الكثير من النساء تملك قلب أم وهي لم تلد، فتتعامل مع الأطفال بالكثير من الحب والحنان والعطف.
أما الأمهات والآباء الذين يتعاملون بقسوة وبوحشية مع أطفالهم فلا شك أن منبع ذلك خلل نفسي، فهؤلاء يحتاجون بدورهم إلى الرعاية، وهم بالتأكيد لا يستحقون ممارسة أروع وأكثر المهن إسعادا لصاحبها، مهنة تلامس القلوب والأرواح وتسعدها، هؤلاء أرحمهم كما أرحم أطفالهم فحالهم موحشة وسوداوية مقيتة لا بهجة فيها ولا سكينة، هؤلاء افتقدوا طعم السعادة وأضاعوها، أدخلوا أنفسهم طواعية في سجن نفسي يقبض الأنفاس، هؤلاء مصابون بمرض مستعص، هؤلاء بالتأكيد لا يعرفون حقيقة ديننا وسموه ولم يتدبروا تعاليمه السمحة، ولم يتفكروا في سنة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام.