'أيام لم يدخرها أحد' تنهي عزلة إبداعية تحصن فيها الشاعر عشرين عاما
في عزلة إبداعية تحصن فيها الشاعر محمد الدميني على مدى عشرين عاماً، منذ كتابه الثاني سنابل في منحدر الصادر عام 1994، تتخمر فيها نصوصه وتتعتق. لا يأبه بكرّ الأيام والسنوات ولا يلقي بالاً للنشر. يكتب ويغيب في الأدراج. ربما طلبه الضجر واليأس. ربما حاصره الاختناق؛ فكانت العزلة الشديدة الطويلة يرقب فيها ضجره ويأسه واختناقه؛ ينقب بصبر ويختبر بتأنٍّ. ينكب على سبْر حالاته وموضوعاته وكأنه يدوّن سيرة أو في سبيله أن يفضي بشهادة عن عصر وعن عمر وعن مرحلة ملتبسة يتغشاها الضباب من كل جانب. وها هو بعد عشرين عاماً يخرج بحصيلة وازنة تقول كل عزلته وغيابه في كتابه الثالث أيام لم يدّخرْها أحد (دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام ـ 2014).
تنطوي نصوص الكتاب، كسمة غالبة ومميزة، على مكون سردي لا تخطئه العين. ثمة مكان للحكاية وغرزتها لا تأتي متعجلة أو منسابة. يتدفق النص على مهل وليس في مجرى متصل متتابع. هناك توقفات وتريث والتفافات تجسدها المقاطع المنفصلة داخل كل نص والتي تشي بالمراجعة والتقليب وتكشف عن التنوع بالتقاط الحالة أو الموضوع من أكثر من جهة؛ تعميقاً واختباراً وإنارة لأركان يغمرها المرور العابر لا يلتفت لبريق مطور ولا لإشارة ثاوية. ينطلق الشاعر بالسرد، تعينه الذاكرة وصلابة الوقائع. يتأمل وينفذ؛ تستحثه الطبقات العميقة أن يصل إليها ويحمل فمها من الطين إلى شمس كلماته:إني أمضي إلى النَبع/ إلى صخوره التي أكَلها النسيان/ ومائِه المخنوق تحت الطحالب،/ لأخرج قُبلاً ودموعاً/ كنت ادّخرتها من دراهمي القليلة..// كان عليَّ أن أزيح/ تلالاً ووصايا وفؤوساً/ قبل أن تشع قُبَلي الأولى/ فأنفض عن فمها الطين اليابس/ وأرد عنها عصابات النمل..// كانت قُبلاً محصّنة/ لم يَتعثر بها أحد.
البراءة المنسية. فردوسه المفقود؛ ضوْعه الضائع وضوؤه المبدد في زمن مدينة لم ترأف ببحرها وتنوش كبدها الصحراء. يفد إلى الشاعر الخراب من كل مكان، فيسلمه إلى يد الضجر الغليظة تمضي به متخبطاً حائراً بلا قصد ولا إلى جهة ينبئ عنها الحاضر، وقد خلَت حتى زوّادته من وجوه تستعيده في ملامح الصّبا. ينفر في وجهه زنخ وتحوط به العتمة: أتسكّع غالباً/ في الأماسي/ حيث الروائح فاسدة في الجوار/ وحيث المدينة/ التي تغطّ تحت قدميَّ/ خيام تجرجرها الإبل بلا رأفة.... لم يكن لدينا ما يكفي من الضوء/ لنستعيد ظلالَك/ من وراء عناكب الأشجار/ ولا شمعة/ لنرى صورتك تطفو/ فوق مياه الآبار... في واحد من أجمل نصوص الكتاب (نص حائط، ص 16)، وأحسبه نابضاً وحيويّاً بما يفي بالمحمول التعبيري الذي يشغل الشاعر ويثقل عليه كلما ذهب إلى بياض الورقة. نجد هنا الذات مشعثة مشطورة إلى شُعب ثلاث بما يرسم، أو أحرى يؤكد، بلوغ اليأس والارتطام بالقاع ومشارفة النهايات. يتوزع الضوء متنقلاً بين بقع ثلاث يربط بينها الحوار والوصف؛ الذات بتجريد آخر منها هو القرين في المرآة يستقبل الحديث في صيغة النهي والأمر وبنداء القرب؛ والحائط مدار الحوار ومرمى الوصف الذي يحيل بشكل ترميزي إلى الذات في شيئيّتها التي أوصلتها الأيام إليها بعضّة الظروف السامّة وتقلّبات الأحوال إن في خاصّها أو في عامّها. زد على ذلك تبدي - هذه الذات - في صورة من الهشاشة والعجز الأدنى إلى الشيخوخة المختصرة في الأقل من الحركة وإشارات الحياة بوصفها مبادرة ودورةً ريّانةً في الفعل. وأخال أن الحائط يعمل بمثابة إسقاط، في مفهومه بالتحليل النفسي، نتعرف فيه ذات الشاعر المتكلمة عبر هذه التقنية، وفي الوقت نفسه تقوم هذه الذات بحرث المسافة إلى حقيقتها باكتناه الصورة المقابلة بأدق ما فيها من أوصاف هي بالمحصّلة انعكاس داخلي؛ يوضح ويضع الأصابع في شق الألم فائراً ينتظر خلاصه بدفعة تنقذ من وهم يتغذى من نسغ ما عاد بإمكانه أن يصعد إلى الجذع فضلاً عن الأوراق. يقشّر محمد الدميني حائطه؛ ذاته ليكشف له ولنا كم هي المقابر التي تستوطننا من الداخل وتتفشّى. لقد سُرق الفم وانتهبت ينابيع الغناء:لا تستند علَى هذا الحائط/ يا صديقي/ ليس صلباً بما يكفي/ لرد أذى النّبال/ ولا سميكاً بما يكفي/ لامتصاص زنخ الأذهان.// ليس سوى/ حائط لطخته الطيور/ وتركته ينوء تحت أثقال الكلمات/ وهسيس الضمائر./ أتركه – يا صديقي – واقفاً/ يستظل به فلاح عابر/ سرقوا فمه/ منذ أن أوصدوا غناء السفوح.// إنه حائط/ لم يِؤذ حتى الأشجار التي تعالَقت عليه./ كان له قلب../ لكنهم ردموا حوله الهضاب/ لا تهزه بعنف/ ولا تتسلقه خادشاً وحدته/ فليس وراءه/ سوى المقابر.
* كاتب سعودي