لم يستطع السكان الأصليون أن ينعموا كغيرهم بخيرات بلادهم، ففي بدء الاستعمار البريطاني تم الاستيلاء على أراضيهم التقليدية وطردهم منها باستخدام العنف، واستمرت ممارسة التمييز ضدهم طيلة معظم تاريخ أستراليا
أكتب هذا الأسبوع من منتجع كيرنز في شمالي أستراليا، حيث يرى الزائر حضوراً واضحاً للسكان الأصليين، الذين ما زالت أوضاعهم المعيشية والتعليمية أقل من بقية الأستراليين، على الرغم من المحاولات العديدة للحكومات الأسترالية المتعاقبة لمعالجة هذه المفارقة في إحدى أغنى دول العالم.
وصلت الحكومة الجديدة، التي تمثل يمين الوسط، بقيادة رئيس الوزراء توني أبوت إلى الحكم في سبتمبر 2013 على خلفية وعود بمعالجة جذرية لأوضاع السكان الأصليين، وفي يوم الجمعة الماضي 1 أغسطس أطلق رئيس الوزراء تقريراً جديداً عن تلك الأوضاع أعده بطلب منه أندرو فورست رجل الأعمال المعروف في مجال التعدين في ولاية غرب أستراليا.
شغل موضوع المظالم التي تعرض لها السكان الأصليون الحكومات الأستراليةَ المتعاقبة، ويحاول التقرير الجديد معالجتها بشكل شمولي، بدلاً من الحلول الجزئية التي ميزت المحاولات السابقة. فيسعى لمعالجة تحديات البطالة والتعليم والرعاية الاجتماعية، باستخدام مزيج من الرعاية الأبوية والضغط.
فيقترح التركيز على زيادة فرص التحاقهم بسوق العمل، وانخراطهم في المدارس، ويقترح زيادة مخصصات الرعاية الاجتماعية لهم، مع ضبطها بحيث لا تمنح للأسر التي لا تسجل أطفالها في المدارس، وهي إحدى المشكلات المزمنة، كما يقترح تشجيع قطاع الأعمال بإعفاء مؤسساتهم من الضرائب، وغير ذلك من الحلول التي تضمنتها توصيات التقرير الـ27.
ودعا أبوت في إطلاقه للتقرير يوم الجمعة إلى ثورة في استراتيجية التعامل مع قضايا السكان الأصليين، انطلاقاً من توصيات فورست، وقال إنه شكل لجنة متخصصة لدراستها واقتراح ما يمكن إنجازه منها على وجه السرعة، وكلف جميع مؤسسات حكومته بالتنفيذ السريع.
وسيكون التقرير محال مشاورات عامة لمدة 6 أسابيع من الآن وحتى 15 سبتمبر 2014 ذكرى مرور سنة على توليه الحكم، يقوم رئيس الوزراء بعدها بقضاء أسبوع كامل بمعية مستشاريه في منطقة آرنهم لاند، في ضيافة زعيم قبيلة جوماتج. وهو بذلك ينفذ وعداً انتخابياً قطعه بقضاء أسبوع كل عام في إحدى مناطق السكان الأصليين.
ومع ترحيب زعماء السكان الأصليين بهذا الاهتمام الحكومي المتجدد، فإنهم يفضلون الانتظار إلى أن يروا نتائج على الأرض، وربما كانت لديهم بعض الشكوك في مصداقية فورست صاحب التقرير والحكومة الجديدة. ويؤكدون ضرورة أن يكون لهم دور في صياغة السياسات المتعلقة بهم، خاصة في إدارة واستثمار أراضيهم.
وتفتخر أستراليا بالعلاقات الإيجابية التي استطاعت توفيرها لأقلياتها العرقية والدينية، التي ترجع أصولها إلى نحو 170 دولة، وتنعم بفرص اقتصادية مجزية تقدمها هذه البلاد. فبإنتاجها القومي البالغ 1.5 تريليون دولار، تعد أستراليا الدولة 12 الأغنى في العالم، وبعدد سكانها الذي يقل عن 24 مليون نسمة، تستطيع أن توفر لهم أحد أعلى مستويات المعيشة وأفضل برامج الرعاية الاجتماعية. وتبلغ مساحة أستراليا 7.7 ملايين كيلومتر مربع، نحو ثلاثة أضعاف مساحة الجزيرة العربية، غنية بالموارد الطبيعية والإمكانات الاقتصادية.
ومع ذلك، لم يستطع السكان الأصليون أن ينعموا كغيرهم بخيرات بلادهم. ففي بدء الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر، تم الاستيلاء على أراضيهم التقليدية وطردهم منها باستخدام العنف أو أساليب قانونية واهية. واستمرت ممارسة التمييز ضدهم طيلة معظم تاريخ أستراليا. وفي بعض المناطق تمت إبادتهم جماعياً، وفي حالات أخرى خطف أطفالهم عنوة وألحقوا بأسر أوروبية تتبناهم دون موافقة أهاليهم.
ولم تبدأ أستراليا في تصحيح أوضاع سكانها الأصليين إلا بعد مرور قرنين من الزمن، خاصة فيما يتعلق بإعادة الأراضي إليهم. فبعد الكثير من الاحتجاجات، وقرارات المحاكم، بدأت أستراليا في سبعينات القرن العشرين بالسماح بإعادة أراضي السكان الأصليين إليهم.
وصدرت عدة قوانين تسمى بقوانين حقوق الأرض، في ولايات أستراليا ومناطقها المختلفة تهدف إلى نقل ملكية الأراضي من الحكومة الأسترالية ومكوناتها المختلفة إلى القبائل والشعوب الأصلية التي كانت تقطنها. وبحسب هذه القوانين، تعاد الملكية مشاعاً إلى القبيلة أو الشعب أو المجموعة العرقية، وليس لأفراد بعينهم، مع بعض الشروط التي تهدف إلى الحفاظ عليها في ملكية القبيلة للأجيال القادمة، فلا يجوز بيعها مثلاً.
ويعتبر قانون حقوق أراضي السكان الأصليين الذي صدر في عام 1976 في المقاطعة الشمالية لأستراليا أول تشريع يؤسس بوضوح للدعاوى المتعلقة بملكية تلك الأراضي، حيث يمكن القبائل من طلب إثبات ملكيتها من خلال تقديم الدلائل على علاقتها بالأرض، ولو لم تكن ملكية بالمعنى الحديث. وبناء على هذا القانون، تم إنشاء أربعة مجالس للأراضي في تلك المقاطعة، لإدارة نحو 600,000 كيلومتر مربع من الأراضي تم إثبات تبعيتها للسكان الأصليين، أي ما يعادل نصف مساحة المقاطعة.
ثم صدرات قوانين مشابهة في بقية أنحاء أستراليا.
وفي عام 1995، أسست الحكومة الأسترالية مؤسسة أراضي السكان الأصليين لضم المزيد من الأراضي لملكيتهم وإدارتها لصالحهم، ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. وتمول المؤسسة من حساب خاص تديره الحكومة لصالح السكان الأصليين، ويأتي دخله من ريع الاستثمارات في تلك الأراضي.
وبالإضافة إلى إعادة بعض أراضي السكان الأصليين إليهم، قامت الحكومة بتعزيز برامج التعليم والرعاية الاجتماعية التي تهدف إلى ردم الفجوة بينهم وبقية مواطني أستراليا، في الدخل والتعليم والعمل والمهارات، ولكن المعنيين بتلك البرامج يرون أنها قد لم تحقق الأهداف المرجوة منها، وهو ما يشاهده الزائر في كثير من مناطق أستراليا.
ويرى المدافعون عن السكان الأصليين أن مجالس الأراضي ومؤسسة الأراضي قد تجاوزها الزمن، ويطالبون بأن يتولى ممثلو السكان الأصليين إدارة شؤونهم واستثمار أراضيهم بأنفسهم. ولهذا أكد زعماؤهم هذه المطالب في ردهم على تقرير فورست، وجدد زعيم قبيلة يولنجو في تصريحات صحفية يوم السبت المطالبة بتغيير جذري لآلية اتخاذ القرارات المتعلقة بالسكان الأصليين، ونقل الصلاحيات من مجالس الأراضي إلى القبائل نفسها. أما زعيم قبيلة جوماتج، الذي سيستضيف رئيس الوزراء في شهر سبتمبر، فصرح أن الوقت قد حان لاستعادة السكان الأصليين السلطة على أراضيهم.