من يقرأ بين الكلمات والسطور لكلمة خادم الحرمين الشريفين يدرك أن هناك هماً عميقاً للأحداث وتداعياتها، وأن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت إن لم نتحرك سريعاً لتلافي ما قد يحصل
تظل المملكة العربية السعودية حاضنة الإسلام وقبلة المسلمين، والرؤوس كلها تستشرف رؤيتها ومواقفها، فهي جزيرة الإسلام التي يأرز إليها الإسلام كما تأرز الحية إلى جحرها مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر إليها المسلمون برؤية عاطفية ودينية، لأنها قبلتهم وفيها المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان نداء خادم الحرمين نابعاً من مهبط الوحي ومهد الرسالة.
إن الريادة لا تأتي إلا من خلال المواقف التاريخية التي تصنع الفوارق وتغير مجرى الأحداث، هكذا علمتنا التجارب التاريخية، ولذلك جاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين لتعلن معالم رؤية المملكة في القضايا المفصلية للأمة والتي تبدأ من رسم صورة الإسلام النقية بعيداً عن تزيدات المتزيدين، وغلو الغالين، وتهوكات المتطرفين الذين اختطفوا الإسلام وشوهوا صورته كما ذكر حفظه الله، ولذلك تحاول المملكة أن تقدم وتقارب الصـورة الحضارية للإسلام محافظة على الأصالة في الرؤية الشرعية، ومنطلقـة منها إلى المعاصـرة التي تفرضـها طبيعـة السـياق الحضاري العالمي واحتياجات البشرية العمرانية والمدنية.
ولأن قضية الغلو والإرهاب التي تشوه صورة الإسلام وتقدمه للعالمين ببشاعة متناهية، وهذا مقصد يريده الأعداء، فإن خادم الحرمين الشريفين أبدى حرقة وألماً في لقائه مع العلماء الأخير، واستحثهم على بذل المزيد من الجهد لمناقشة الأفكار المنحرفة والوقوف أمام هذه الأفكار بعد أن بين في كلمته الجهود التي بذلها في سبيل تعزيز قيم الحوار الذي لم يجد له آذاناً صاغية في حمأة الصراعات والأيديولوجيات العالمية والإقليمية، ولذا أشار خادم الحرمين حفظه الله إلى ذلك المخطط الرهيب الذي يقوم به أفراد وجماعات ودول بقصد إدخال الأمة في مأزق التشظي والفتن وتنفيذ مخططات الأعداء من خلال إراقة الدماء وإثارة الفوضى وتوتير العلاقات بين الحاكم والمحكوم الأمر الذي يحتاج إلى تنبه وعناية حتى نقطع الطريق على مثل هذه المخططات الآثمة.
ولأن المملكة تضطلع بهذا الدور الكبير فإن من واجباتها الكبرى ومهماتها العظيمة أن تكون قضية فلسطين من أساسيات حراكها السياسي والوقوف مع القضية العادلة وبيان الرفض لسياسات الدولة الصهيونية التي تسوم إخواننا سوء العذاب مع صمت كبير من القوى الكبرى التي ترى في الدولة العبرية مندوباً سامياً لها في المنطقة، وهذا يتطلب من الدول وعلى رأسها المملكة الوقوف بحزم وقوة أمام العدوان والبغي الصهيوني الذي يسترخص دماء المسلمين في غزة ويمطرهم بوابل من الصواريخ والقنابل والقاذفات التي راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى من المستضعفين من الرجال والناس والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، الأمر الذي ركز عليه الملك في خطابه وأنكر على صمت المنظمات الحقوقية العالمية الذي لا يوجد له تبرير، وأن هذا الصمت سيخلق مزيداً من حالات العنف الذي سيحل محل الحوار الذي تبنته الدولة ودعمته معنوياً ومادياً.
إن العالم العربي في مرحلته الراهنة والذي جاءت نتائج الثورات فيه كارثية تحتاج إلى من يعلق قيادة الركب ليخلص به إلى بر الأمان، وليتسلم الريادة معتمداً على الله تعالى ثم على هذه المكانة العظيمة التي تحظى بها المملكة العربية السعودية في قلوب شعوب المسلمين، ولتكون مرسول الأمة أمام العالم المتوحش المادي الذي يرى في منطقتنا مجالاً لصراعه ومطامعه على حساب أمننا واستقرارنا ودمائنا، وأن الحكمة والمسايسة وتقدير المصالح والمفاسد يقتضي المواقف الحازمة الشجاعة كما يقتضي التنازلات والمسايرات، وأننا أمة عندها القدرة والاستعداد للتضحية في سبيل قضاياها ومواجهة أعدائها كما كانت في كل عصورها الأولى والمتأخرة، وخاصة أننا في عالم لا يحترم إلا القوي وصاحب الإرادة والعزيمة والتضحية.
إن من يقرأ بين الكلمات والسطور لكلمة خادم الحرمين الشريفين يدرك أن هناك هماً عميقاً للأحداث وتداعياتها، وأن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت إن لم نتحرك سريعاً لتلافي ما قد يحصل، وأن الأوضاع تدفع باتجاه مزيد من التوتر في المنطقة، وأن علينا أن نقوم بالواجبات المنوطة بنا كل في موقعه وحسب قدراته وما يطلب منه، وأن الإعداد للمرحلة القادمة يتطلب وعياً جماعياً بطبيعة المرحلة ومتقضياتها وكيفية مواجهة مستجداتها ومفاجآتها.. حفظ الله خادم الحرمين وأمد في عمره على الطاعة والخير.