'ساحة البحار' في أبها ليست مسرحا للاستقبالات الرسمية فقط، بل إنها حسب ما روى لي أحد أهاليها القدامى الذين عاصروا لذة العيش في تفاصيلها القديمة وافتتنوا بها، كانت تخصص للاستعراضات العسكرية في مناسبات مختلفة
1493 أصدر الرئيس الروسي إيفان الثالث مرسوما يقضي بإزالة الألواح والمباني الخشبية التي غطت الميدان الأحمر في قلب مدينة موسكو وأعاد لهذا المربع، المنسوب للون الدم بسبب مذبحة عظيمة وقعت فيه حسب إحدى الروايات التاريخية عنه، أعاد له نبض الحياة بإزالة ما يحجب الوصول والرؤية إليه. وأصبح هذا الميدان خلال السنوات المتتالية من عمر الإمبراطورية الروسية مكانا لاستعراض قواتها وانتصاراتها، وحرص زعماؤها على الحفاظ على اتساعها واستيعابها لمكانتها التاريخية في سيرة روسيا العظمى كرفض ستالين لخطة لازار مساعده ومعد خطة إعادة بناء موسكو اقترح فيها أن تتم إزالة إحدى الكتدرائيات وأصر على أن تبقى الساحة كما كانت مسبقا.
حول العالم باتساعه المكاني والتاريخي تكاد لا تخلو مدينة من ساحة محلية مثل الساحة الحمراء في موسكو تفتح ذراعيها لساكنيها أو زوارها وتكون القلب النابض لهم حينما يجتمعون فيها لأمسياتهم، ورئة الحياة تشرع منها أنفاس صباحهم وقلادة من حكايات وقصص وغناء ترتاح على صدر المدينة وتختصرها. فمن ساحة الكونكورد بباريس، مرورا بالطرف الأغر في لندن حتى ميدان تيانانمين بكين وسان ماركو فينيس ولازا مايرو مدريد وغيرها مما لا يُحصى حول العالم، نلحظ أن هذه الساحات والميادين اجتمعت على أنها اختصار لهوية مدنها ومتنفسها.
في ثاني أيام عيد الفطر المبارك وضمن فعاليات العيد بمنطقة عسير أقيمت السمرة الأبهاوية في ساحة البحار وسط مدينة أبها، وتضمنت صورا شعبية وغنائية لاحتفالات الأهالي من مختلف القرى المجاورة للمدينة ومشاركة من الأهالي ثم تكريم عدد من الأسماء المتميزة بالمنطقة. هذا الاحتفال المقام في ساحة البحار الشهيرة في أبها يعزز مكانتها التاريخية ويعيد للأذهان العامرة بذكرى هذا الموقع مكانها ومكانتها في قلوب الأبهاويين.
يقول الأديب محمد بن حميد رئيس نادي أبها السابق عن ساحة البحار: عندما توفي الملك عبدالعزيز - رحمه الله - اجتمع في ساحة البحار قبائل وأعيان المنطقة مبايعين الملك سعود وداعين للمك عبدالعزيز بالرحمة والمغفرة، ويذكر أيضا أن الساحة شهدت مهرجانات في عهد الملك عبدالعزيز لنصرة الجزائر وآخر لنصرة فلسطين. وكانت مكانا لاستقبال الملوك في زياراتهم لأبها، كزيارة الملك سعود عام 1373 ثم زيارة الملك الشهيد فيصل الأولى في عام 1340 والثانية عام 1391، ثم زيارة الملك خالد -رحمه الله- برفقة عدد من زعماء دول الخليج وأقام الأهالي حفلا كبيرا استمر لأربع ساعات. ثم الزيارة الشهيرة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حينما كان وليا للعهد والحفل الأسطوري الذي أقيم على أرضها تكريما له، غير الكثير من الاستقبالات لوزيري الدفاع والداخلية السابقين الأمير سلطان، والأمير نايف -رحمهما الله- حضراها من شرفة مطلة على هذه الساحة.
لم تكن ساحة البحار مسرحا للاستقبالات الرسمية فقط، بل إنها حسب ما روى لي أحد أهاليها القدامى الذين عاصروا لذة العيش في تفاصيلها القديمة وافتتنوا بها، كانت تخصص للاستعراضات العسكرية في مناسبات مختلفة، كما شهدت تأسيس أول ناد رياضي نادي عسير، وكانت تقام على أرضها جميع المباريات حتى بداية الثمانينات. وكانت تشهد في مطلع الثمانينات أيضا في نهاية كل عام دراسي، مهرجانات الأنشطة المدرسية التي تتنافس في إظهارها بصورة مميزة جميع قطاعات التعليم بالمنطقة وتشهد حضورا جماهيريا وتنظيما إداريا مميزا، تشاركهم فيه فرقة الجيش الموسيقية في مسيرة الكشافة الاستعراضية فتضفي حماسا ما زال صداه يتردد في أذهان من عاصرها. وكان يقام فيها كذلك معرض لأرامكو وتبقى في الأيام العادية مكانا لاجتماع العوائل ولعب الأطفال.
أثناء احتفال المعايدة الذي كان يوم الثلاثاء الماضي ثاني أيام العيد وأصوات الأهازيج الشعبية تملأ فضاء المنطقة المحيطة بساحة البحار، كان المكان مكتظا بأعداد كبيرة من الحضور والسيارات تملأ المواقف الجانبية، وحاولت أن أشاهد أو ألتقط بكاميرتي بعضا من الفعالية ولكن كنت اصطدم بحاجز خرساني كبير وعال سوّر خصر هذه الساحة وأحاط بها مع مبان جانبية من جميع الجهات حجبت الرؤية لما في الداخل حتى ظهرت البحار على غير ما عهدناها.
مسمى البحار الذي أطلق على هذه الساحة قد يكون تشبيها لها بالبحر في اتساعه حينما كانت هذه الساحة ملتقى لمعروضات بيع أهل القرى قديما وتتسع لهم جميعا بكامل صخبهم وبساطتهم، وربما إشارة لكرم البحر البعيد عنهم وخيراته وكنوزه التي لا تحصى التي يلمسها ساكنو الجبال في السماء القريبة من أيديهم حينما يرفعونها شكرا وحمدا على وفير أمن ورزق يحصلون عليه وسط بحر بحارهم. والبحر فضاء الله ومداه في أعين البشر لا يُطوق بأسوار ولا يضرب بينه وبين قاصديه حرس وأبواب. قد تكون للتنمية ومحاولات تطوير المدينة اعتباراتها لدى منفذي المشاريع ولكن تاريخ المدن وجمالياتها القديمة التي تنقل لنا بتذكر يخنقه الألم من كبارنا أجدر أن تحرص عليه الأمانات.
قد ينهض في داخل المحبين للمكان وديع الصافي -رحمه الله- وهو يجهش بصوته مخاطبا لبنان: بتحبني؟ وشهقت بالبكي وراسا على صدري تكي، ويُكمل معه: قلتلها زهقان لبنان مش لبنان، فيتمتم وهو يرى الطوق الخرساني العالي: إنها ليست هي، فمن يصون دمعها!