النظام العالمي السائد، الذي يعيش اليوم مرحلة انتقالية، أوجد التجمعات الاقتصادية مثل مجموعة دول 'بريكس'؛ ليكون من واجبها إرساء قواعد نظام عالمي جديد؛ لمواجهة هيمنة الاتحادات الإقليمية الأخرى

نتيجة حتمية لمبادئ الفوضى الخلاقة، التي أطلق عنانها النظام العالمي السائد، انقسمت دول القرية الكونية إلى نوعين: دول استسلمت طوعا لهذه المبادئ فأصبحت عاجزة أمام مشاكلها المزمنة ومستسلمة لتحدياتها الخطيرة، ومتمادية في تشتيت مواقفها، ودول أخذت على عاتقها تجميع شملها واستغلال قدراتها فسارعت لتعزيز مكانتها واستعادة حقوقها.
في ظل هذا الواقع العالمي المتغير، تحول نصف الوطن العربي إلى حلبة صراع مستميت على السلطة والمال، وتربع ثلث العالم الإسلامي على منابر التكفير والترهيب والتخوين، بينما انتفض التنين الصيني ليتبوأ نظامه الاشتراكي مكانة غير مسبوقة في تاريخ العولمة الرأسمالية، وانتفض الدب الروسي ليستعيد أمجاده الشيوعية باحتلال شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، مستعيدا أرضا مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع، تعادل مساحة فلسطين المسلوبة.
لم تستسلم الصين وروسيا لتيارات العولمة الجارفة، ولم تتهافت على السلطة والمال في حقبة الفوضى الخلاقة، بل استجمعت قواها مع البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وحددت أهدافها لتؤسس مجموعة من أسرع الدول في النمو الاقتصادي، وأطلقت عليها اسم بريكس، التي تشكل مختصرا للحروف الأولى من أسماء هذه الدول.
في يونيو عام 2009 عقدت أول قمة بين رؤساء دول مجموعة بريكس لتعلن عن تأسيس نظام عالمي جديد، وتتفق على مواصلة التنسيق في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، بما فيها التعاون في القطاع المالي والتمويلي، وإيجاد الحلول الناجعة للأمن الغذائي.
تشكل مساحة مجموعة دول بريكس 26% من مساحة القرية الكونية، ويقارب عدد سكانها 45% من سكان الأرض، لتستحوذ على 23% من الناتج الاقتصادي العالمي و18% من إجمالي حجم التبادل التجاري الدولي، وتحتفظ بنحو 40% من مجموع احتياطيات العالم، لتنافس بحلول عام 2050 اقتصاديات أغنى دول العالم، بما فيها أميركا وأوروبا واليابان ودول الخليج العربية مجتمعة.
في 16 يوليو من العام الجاري، أعلنت مجموعة بريكس عن توقيع اتفاقها لإنشاء بنك جديد للتنمية برأسمال مبدئي قدره 100 مليار دولار، وصندوق للاحتياطيات النقدية يبدأ بنحو 100 مليار دولار أخرى، وذلك بهدف تنشيط التعامل الاقتصادي البيني، وإعادة تشكيل البنية المالية العالمية لمواجهة تأثير مؤسسات الإقراض الغربية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وعلى الرغم مما يربط دول مجموعة بريكس من تحديات مشتركة وقضايا دولية شائكة، إلا أن المجموعة عقدت العزم على مواجهتها بتسريع إصلاحات الهيكلية، وتطويع أمنها الغذائي والمائي والطاقة وتذليل عقبات التنمية والأزمة المالية العالمية، إلى جانب تدويل عملاتها المحلية. لذا أسست المجموعة قاعدة تعاون استثمارية وتجارية مشتركة، وكونت منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات، لدفع احتساب التجارة البينية بالعملة المحلية، وتسهيل مبادلاتها الاستثمارية، مما دفع بتعاونها المشترك في المجالات كافة، ومواجهة تيارات العولمة الجارفة بجدارة.
طبقا لتوقعات الأمم المتحدة، فإن عدد سكان العالم سيرتفع في عام 2050 إلى9,5 مليارات نسمة، لتحتل الهند المرتبة الأولى بنحو 1,5 مليار نسمة، تتبعها الصين في المرتبة الثانية بنحو 1,4 مليار، ثم أميركا بنحو 397 مليون نسمة.
وبناء على توقعات صندوق النقد الدولي، فمن المتوقع أن تتربع الصين بعد 20 سنة على عرش أكبر اقتصاد عالمي، بناتج محلي إجمالي يفوق 83 تريليون دولار في عام 2030، لتتفوق بذلك على أميركا التي ستحتل المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي لا يزيد عن 34 تريليون دولار.
أما اليابان فستتراجع إلى المرتبة الرابعة بعد الهند، التي ستحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي يفوق 26 تريليون دولار.
من حقنا أن نتألم اليوم من تشتت الوطن العربي، الذي تبلغ مساحته 14 مليون كيلومتر مربع، ليكون أكبر من أميركا التي تبلغ مساحتها 10 مليون كيلومتر مربع، وأكبر من الصين التي تبلغ مساحتها 9.5 ملايين كيلومتر مربع.
ومن حقنا أن نشفق على مصير شراكاتنا الاقتصادية العربية وتحالفاتنا التجارية الإقليمية، لجهلنا بمزايا إقليمنا الموحد، المختلف عن أقاليم الأرض قاطبة، لتميزه بأنه يضم أكثر شعوب العالم تجانسا بفضل ديننا الأوحد ولغتنا الواحدة ومصيرنا المشترك الموحد. ففي الهند توجد مئات الديانات وفي الصين آلاف اللغات، وفي أميركا وكندا وأوروبا وروسيا واليابان وأفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا توجد عشرات اللغات والمذاهب والملل، حتى إسرائيل الدويلة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 1% من مساحة العالم العربي، ولا يزيد عدد سكانها عن 2% من عدد الشعوب العربية، تحتوي على 27 جنسية مختلفة و5 أجناس بشرية متضاربة، وتتحدث بأربع لغات متفاوتة، ومع ذلك مازالت شعوبنا العربية تقف مشتتة ومتصارعة، يفرقها اقتصادها المتناثر وتجارتها البينية المتهالكة، إلى جانب تراجع سياساتها الخارجية المخجلة، وتورطها في أعمال العنف والفساد.
عالم الغد لن يكون مثل عالم الأمس أو حتى مثل عالم اليوم. القرية الكونية الصغيرة التي نعيش عليها سوف تقسم حجم الاقتصاد العالمي مستقبلا إلى أربع فئات، أصغرها لن تزيد نسبته عن 12% ليكون من نصيب الدول الفقيرة والدول العربية المتناحرة التي فشلت في إنشاء تحالفاتها الاقتصادية وشراكاتها التجارية.
والنظام العالمي السائد، الذي يعيش اليوم مرحلة انتقالية تتميز بالفوضى الخلاقة سياسيا واقتصاديا، أوجد التجمعات الاقتصادية مثل مجموعة دول بريكس؛ ليكون من واجبها تجاه شعوبها إرساء قواعد نظام عالمي مميز وجديد؛ لمواجهة هيمنة الاتحادات الإقليمية الأخرى.
فمتى تقتنع الدول العربية والمجموعة الإسلامية بضرورة تغيير مواقفها وتوحيد جهودها وجمع شملها لمواجهة التطورات التاريخية الملحة وحماية مستقبل أجيالها؟!