ما أحوجنا ونحن نودع شهر رمضان، ونفرح بالعيد أن ترتبط مشاعرنا باللحظة الخالدة، وأن يكون رمضان وقوداً لصلة متينة بيننا وبين كتاب ربنا وشرعته وهدايته حتى نفوز ونسعد بالدارين

النظر في المقاصد والأحكام من العبادات يقارب المسلم من أهميتها، ويشعره بقيمة ما يفعله من عبادة، ويخرج بالعبادة سواء كانت صلاة أو صياماً أو قياماً أو زكاة من كونها فعلاً روتينيا طقوسياً ميتاً إلى كونها شرعت لغاية وهدف رباني، وهذا ظاهر فيمن تأمل النصوص الشرعية المتعلقة بالعبادات الظاهرة، ففي الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وفي الصيام (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وفي الحج (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)، وفي الزكاة (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، وهكذا في سلسلة من الحكم البالغة للعبادات والتي تنعكس على الإنسان وترقيه في مدارج الكمال البشري حتى يصلح في دنياه وتصلح له آخرته.
إن المتأمل في الحكمة من تحديد رمضان بالصيام والقيام وقراءة القرآن والإخبات وفعل الطاعات والقربات ليلمح الغاية الظاهرة من هذا، ففي رمضان نزل القرآن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، وفيه ليلة القدر التي تنزل فيها الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم (إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر)، فكانت عظمة الليلة في كونها تنزل فيها الوحي فهي ليلة (فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين).
فالحكمة المتجلية التي يقربها المؤمن هي ربطه بـلحظة التنزل القرآني على النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكيره بتلك اللحظة الفارقة في حياة البشرية، اللحظة التي انتقل فيها الناس من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الظلم إلى العدل، ومن التيه والضياع إلى الصراط المستقيم، اللحظة التي نزل فيه جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء لينقل الأمة الأمية إلى كلمة اقرأ، ويعزز من قيمة العلم والهداية، اللحظة التي بدأت مسيرة للبشرية بعد اندراس آثار النبوة وتفشي الجهل والظلم والشرك، اللحظة التي ارتبطت السماء بالأرض من جديد، وأعلنت فيها بداية عهد جديد من النبوة الخاتمة التي لا يقبل الله من الناس غير الإسلام ديناً (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
إن رمضان، وعظمة ليلة القدر التي يتلمسها المسلم في العشر الأواخر من رمضان ما هي إلا لربط المسلم بتلك اللحظة الخالدة، فيشكر الله عليها بما تفضل الله عليه بالهداية والنور، وشرح صدره للإسلام، وجعله من أمة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، يتذكر منّة الله عليه بالقرآن والإسلام في وقت يلتفت ذات اليمين والشمال فإذا كثير من الناس عن ذكر الله غافلون، وعن الدار الآخرة معرضون، فيكون رمضان حالة وجدانية ورابطة روحية بين المسلم وبين القرآن ونزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، فيحقق من ذلك إدراك موقعه في التاريخ البشري ومسيرته الطويلة، والحكمة من وجوده، والسبيل الذي يرضي ربه لينال عفوه وغفرانه، والقرب من كتابه الذي فيه أسماؤه وصفاته ومحبوباته ومكروهاته وحلاله وحرامه وعلله وغاياته.
إن شهر رمضان مدرسة تعيد للإنسان روح الإسلام ومعنى الهداية والقرآن، وترجعه إلى سيرة النبي العطرة، وخاصة في تلك الليلة التي نزل عليه جبريل وضمه وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ، ليقود أمة عالمة ومهتدية، تلك اللحظة التي ارتجف فيها فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وراعه ما رأى، تلك اللحظة التي طلب من زوجه أم المؤمنين خديجة أن تزمله حتى يذهب عنه روعه، تلك اللحظة التي بدأ دور المرأة في حياة النبي حين ثبتته وصدقته وطمنأته، تلك المرأة العظيمة التي قالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)، وتلك اللحظة التي بدأت فيها النبوة بعد أربعين سنة من التهيئة لحملها، واصطفاء الله له من بين العالمين ليكون هادياً ومبشراً نذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وتلك اللحظة التي بدأت دعوته وما سيلاقيه من نصب وعناء وابتلاء ومشقة حين أخبره ورقة بن نوفل رضي الله عنه بأنه ما جاء رجل بمثل ما جاء به إلا أوذي..
ما أحوجنا ونحن نودع شهر رمضان، ونفرح بالعيد أن ترتبط مشاعرنا باللحظة الخالدة، وأن يكون رمضان وقوداً لصلة متينة بيننا وبين كتاب ربنا وشرعته وهدايته حتى نفوز ونسعد بالدارين، تقبل الله من المسلمين صيامهم وقيامهم وغفر لهم ذنبهم ورزقهم وبلغهم ما رجوه من ربهم الكريم.