لم يعد للإنسان أية قيمة تذكر، صغيرة كانت أم كبيرة، لقد أضحى الإنسان، في هذا العالم، أرخص الأشياء وأتفهها وأحطها على الإطلاق، فمن الذي جنى على الإنسان يا ترى؟، أوَليس الإنسان ذاته من جنى على نفسه؟!

بعد أن اغتسل جيدا، وأحس بالشبع، أخرج القلم من قارورة الحبر واتجه إلى علبة المناديل، ليتناول محرمتين ناعمتين كليل صبيا وشفيفتين كقلب صبيا أيضا، مسح بهما ما علق بجسمه من آثار الاستحمام، ثم أخذ يتلفت متسائلا عن الورقة: أين هي وفي أي جحر تنتظره؟.
إنها هناك، في ركن الغرفة، وسط مكتب بلون العود. فوق سطحه الأملس وعلى مرتبة كثيفة من الأوراق تمددت الورقة بخمول متصنع وراحت تتظاهر بالنوم: نصف النوم ونصف اليقظة مرحلة الخدر اللذيذ!.
ثمة ريح ظمأى قادمة من الغرب، لم يَفُتْها أن تستغل انشغال مقبض شُباك النافذة المفتوح على آخره بِجَنْي بهاء الرخام في الجدار الحريري. ولأنها كانت خالية من الندى انسلت الريح، بخفة، إلى حيث الورقة، تبلغها رسالة عاجلة من الهواء الرطب كانت عبارة عن هبّتين موجعتين.
عدوى حريق ستنتقل، بعد هنيهة، إلى جسد الورقة الرهيف وستشب نار صغيرة في عشب تفاصيلها الداخلية، ستصطك أطرافها من البرد أيضا دون أن تتدثر بشيء سوى صوف انتظارها المحموم. لا بد أن القلم أصغى حينئذ لحسيس أعماقها أو لَسَعَتْه شوكة بعثت بها زفراتها المتتابعة، وإلا لما كان يمشي إليها الآن ويستجيب معها بأن يكون واقفاً إلى جوارها: يطفئ ضوء المصباح الخافت لأن الكتابة مثل الحب، ممارستها نور وفن وابتكار. ما إن ينزع القلم غطاءه كاشفا عن رأسه حتى تبدأ الورقة تصدر مواء مبحوحا متثاقلا كقطة جائعة منذ سنتين لا ليلتين. يعتلي القلم الورقة ويطوف حول خصرها ثم يُحني رأسه قريبا من رقبتها ويمد منقاره المسنون، يغرسه ناحية اليمين... تنتفض الورقة، ترتعد ألما وغنجا واشتهاء... يسير القلم مستقيما إلى اليسار وهو يحك درب البياض بسطور خطاه، يكتب: ما أجمل عالمنا، فما زال فيه للإنسان قيمة لمّا تهدر بعد، فالناس هنا متساوون في الحقوق وفي الكرامة، لا يعتدي أحدهم على الآخر، ويحبون ويحترمون بعضهم بعضا، إنه العالم الفاضل في صورة الأخوة الإنسانية كما رسمها ودعا إليها الخالق الكبير.
تهتز الورقة مثل شال امرأة تفلت من شاعرها، وتسحب نفسها من تحت القلم عنوة لتمضي إلى زاوية ضيقة من الغرفة، تقرفص... تموء وتقول كلاما غاضبا يقطِّعه نحيب متشنج: لا أريد هذا الكلام، كيف تحك لي ظهري بالكلام السعيد الذي لا يمكنه أن يهدئ من لوعتي، فلتسكب في كأس رغبتي مآسي الناس، جمر حرائقهم وأحزانهم، هذا هو ما يريحني، أن تبدد كل شقاء الحياة وتعاسة العالم وتنكتهما قطرة قطرة، في سلتي الواسعة؛ كي أتدفأ قليلا وأغيظ هذا البرد، وكيما يغفو توت أنوثتي على ورد سياجك. إني أريد الصدق وليس الكذب، أريد أن تُسكِت هذا الأنين الذي يمزقني وينثرني آهَة آهة في مهب الخيال العليل...!
يهرع القلم إلى الورقة، يمسك يدها ويعيدها إلى فراشها الورقي، يداعبها لتبتسم، يحاول إرضاءها بتنهيدة طويلة يملأ بها موضعا كاملا من صدرها، ثم يستأنف ليلا عميقا من نضاله المشتهى ضد الجفاف، فيرش حقل الورقة بمطر عاصف من الأسئلة الساخنة، أسئلة حيرى غامضة ملتبسة كحنين الغريب: ماذا فعل الإنسان بالعالم؟ ما الذي صنعه خليفة الله بالأرض؟ وما الذي صنعه بنفسه؟... لم يعد للإنسان أية قيمة تذكر، صغيرة كانت أم كبيرة. لقد أضحى الإنسان، في هذا العالم، أرخص الأشياء وأتفهها وأحطها على الإطلاق. من الذي جنى على الإنسان يا ترى، أوَليس الإنسان ذاته من جنى على نفسه؟ بعدوانيته وجشعه وظلمه وحماقته وطمعه وغطرسته ووهمه وطغيانه وكفره وجبروته وأنانيته... فمن ينقذ العالم والأرض من الإنسان؟ من ينقذ الإنسان من الإنسان؟ من يخلص الإنسان من نفسه؟ من؟ من؟ من؟!.
كان الليل يعوي في أقصى زاوية الغرفة، وكانت عروق القلم تنقبض وتشتد ثم ترتخي، فيما الورقة تغرقُ في سيل أزرق. تذوبُ الورقة وتتلاشى، تضيع وتتوه في زرقة عنيفة وشهية في آن، تماما مثل اللبانة حين تعلكها فتاة تستعد لفتح نهر لعابها أمام أول سابح أو طائش.
يا للأزرق الصعب.. يا للأزرق المستحيل.
كم تحبه الورقة، وتحن إليه، وإلى غموض اللون في لونه وغموض الليل في ليله، ليستر الغامضُ وضوحَ صراحتها الجارحة ويحرس عريها الأبيض من أقلام تبدل ألوانها كل يوم وكل ساعة!.
لقد امتلأت الورقة بالليل وفاضت عن عشقها ونامت بعد أن تنزهت الرعدة الخفيفة في كل مواضع حقلها، غير أن القلم ظل يدخِّن سهرا بليدا ويتعرق الاشمئزاز والقرف من نفسه. ليس ذلك ناتجا عن الشعور الطبيعي الذي يعقب انقضاء اللذة فقط، وإنما كان القلم، فيما يبدو، كمن يحس بأن شيئا ما في داخله ينبذه. لعله يلوم أنانيته وعدم تفكيره بمصير بناته الكلمات عندما أغوته الورقة بجنونها وأثارت فيه شهوة الكتابة، فتدفق صلبه كالينبوع بمئات القطرات. كان يحزنه أي غد أليم ينتظر بناته الكلمات: هل سيجدن مكانا رحبا يتنفسن في أرجائه بحرية؟ أم سيذهب بعضهن ضحية لضيق الأرض المخصصة لإقامتهن وعيشهن بهدوء، حين يُشهر اختصاصي الكشف الطبي مثلا سيف انتقائيته الخاضعة لوزن الكلمة الواحدة ومدى ثقلها، وفي هذه الحالة ربما تُلصَقُ الواحدة في الأخرى، مما يعرض بعض الكلمات للطمس والتشويه، وربما يقرر مسؤول العبور أنه من غير المستحسن وصول عدد منهن إلى ميناء الساحل الآخر لاحتمال عدم لياقتهن من وجهة نظر الحراس ومزاجيتهم التي ترى ضرورة أن يتم التصدق بهن على أسماك القرش، وذلك بإلقائهن في مياه بحر الفناء!.
يبحث القلم بحرقة عن الإجابة الضائعة لسؤال الوجود: كيف نطاوع رغباتنا وشهواتنا ونظل أسرى، لا بل عبيدا لرعشة خفية يدفع نسلُنا ثمنها في النهاية جوعا وتشريدا وسجنا وموتا بطيئا وحشرا في الممرّ الأخير!.
إلى أين ذَهبْتُ؟
وإلى أين (أُجدِّفُ) بكم؟
هل هو الليل ورائحة الحليب الساخن التي تفوح الآن بوضوح؟ أم هي القطط الهائجة المائجة المنزلقة داخل صدور البشر؟
أم إنها القطة التي أبصرتها، قبل قليل وهي ترفع ذيلها وتجوس زوايا الشارع المظلم؟
مسكينة هذه القطة..
ومسكينة كل القطط التي تموء الآن بانكسار، فيما قطة سمينة قد جمعت كل ما بقي من الموائد سمينه وغثه، ولم تبق لبقية القطيع شيئا ولا حتى الفتات!.
ترى، كم قطة سمينة تستفرد الآن بمزبلة الحياة؟
وكم قطة ترفع ذيلها في هذه اللحظة بانتظار كلب لا يأتي إلا حين يعضه البرد؟!