ينبغي على الجهات الرقابية العمل على مهمة استراتيجية لتقييم أداء الوزارات في مجال الإشراف على فروعها في مناطق المملكة المختلفة، يمكن من خلالها معرفة جوانب القوة والضعف في عملية الإشراف، ومعرفة سلبيات وإيجابيات تجربة اللامركزية الإدارية في المملكة
نشرت الوطن خلال فترات زمنية متفاوتة، تقارير صحفية عن وجود شبهات فساد في بعض إدارات التربية والتعليم في مناطق المملكة، كان آخرها قضية فساد تعليم محايل عسير، حيث رصدت الجهات الرقابية مخالفات تتمثل في ترسية مشاريع على مؤسسات بطرق غير نظامية، بالإضافة إلى تعديل أسعار العطاءات في أحد المشاريع.
والقضية السابقة في الحقيقة ليست الأولى من نوعها، فقد تكررت أيضاً في القطاعات الحكومية الأخرى مثل مديريات الشؤون الصحية المرتبطة تنظيمياً بوزارة الصحة، وكذلك الجامعات المرتبطة بوزارة التعليم العالي، ومثل هذه القضايا تدعونا للتساؤل حول دور الوزارات الحكومية في الإشراف والرقابة على فروعها في مختلف مناطق المملكة؟ بالإضافة إلى وجود حاجة إلى توضيح نوع المخالفات وطبيعتها والأسانيد النظامية التي تحكمها، والكيفية التي تمت بها هذه المخالفات مع تحديد الثغرات النظامية أو الرقابية التي تسببت في وجودها.
فلو أخذنا على سبيل المثال قضية فساد تعليم محايل عسير، فليس هناك توضيح لكيفية مخالفة الأنظمة في عملية ترسية المشاريع، ولا عن كيفية تعديل الأسعار عند فتح المظاريف! فهل هذه المشاريع تخضع للمنافسة العامة أم للشراء المباشر؟ فإذا كانت منافسة عامة فكيف تم تشكيل لجنتي فتح المظاريف وفحص العروض؟ وهل مثل هذه اللجان مخترقة؟ أم إذا كانت العملية شراء مباشر فهل ينطبق عليها الشروط النظامية الخاصة بالصلاحيات؟ وأخيراً ماذا عن دور المراقب المالي في التصديق على نظامية هذه المشاريع؟.
والملفت للنظر أيضاً في هذه القضية حسب ما جاء في التقرير أن جهة رقابية طلبت من تعليم محايل الإفادة وبشكل عاجل عن دور المراقب الفني في التوقيع على بيانات تحليل العطاءات المعد من قبل إدارة شؤون المباني بالإدارة، وعن أثر توقيعه والمسؤولية المترتبة على ذلك، والمستند النظامي للتوقيع، والمهام المكلف بها، وهذا الاستفسار من قبل الجهة الرقابية يدخلنا في موضوع تفويض الصلاحيات في فروع الوزارات الحكومية، وبعبارة أدق موضوع اللامركزية الإدارية!.
فاللامركزية هي شكل من أشكال التنظيم الإداري، وتعني نقل أو تفويض السلطة من المركز إلى الفروع، فيتم نقل جزء من صلاحيات الوزارة إلى فروعها في مختلف المناطق، ومن ذلك على سبيل المثال تفويض صلاحيات التعاقد مع المقاولين واتخاذ قرارات الترسية.
ومن مميزات اللامركزية التي حددها علماء الإدارة أنها تفيد في اتخاذ قرارات أفضل بحكم المعرفة بالأوضاع المحلية، وسرعة الاستجابة لمتغيرات البيئة المحيطة والتكيف معها، بالإضافة إلى سرعة اتخاذ القرارات، وحل المشاكل وإنجاز المعاملات وتحمل المسؤولية، واختصار الخطوات الإجرائية التي تمر بها المعاملات، ومن عيوبها تناقض القرارات، وازدواجية الخدمات وزيادة التكاليف، وعدم صلاحية اللامركزية في إدارة العمليات المالية ومراقبة إنفاقها، وقد يؤدي استخدام اللامركزية المفرط إلى إضعاف السلطة المركزية .
وفي المملكة هناك اتجاه إلى استخدام اللامركزية الإدارية رغبة من الحكومة في إدارة التنمية بمفهومها الواسع، وذلك من أجل تنمية المناطق البعيدة عن العاصمة بشكل متوازن، وبالفعل قامت العديد من الوزارات الحكومية بتفويض جزء من صلاحياتها لفروعها، وهناك مطالب من بعض الإدارات والفروع بتفويض صلاحيات واستقلالية أكثر لها.
ولكن الإشكالية التي وقعت فيها بعض الإدارات والفروع هي إساءة استعمال السلطة وضعف الرقابة بالإضافة إلى وجود الازدواجية في اتخاذ القرارات الإدارية وهذه السلبيات ربما نجدها في تعليم محايل عسير ومن قبلها تعليم القريات وحائل والقصيم، وكذلك في بعض الجامعات ومديريات الشؤون الصحية.
فهذه الفروع في شكلها التنظيمي عبارة عن وزارات مصغرة، تتشابه من حيث الهيكل التنظيمي مع المراكز الرئيسية للوزارات، فهي نظرياً ترتبط تنظيمياً مع مدير الفرع، ولكن واقعياً كل إدارة في الفرع ترتبط مع الإدارة الرئيسية في الوزارة، وهنا تختلط الصلاحيات والمسؤوليات، ناهيك عن عدم وضوح الإشراف الفني والإداري على هذه الفروع من قبل الوزارات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مديري الفروع قد يرتبطون تنظيمياً بالوزير مباشرة أو بأحد وكلاء الوزارة، وهنا يزداد التعقيد في التنظيم الإداري وتفويض الصلاحيات، فعلى سبيل المثال، ترتبط إحدى إدارات الفروع بإدارة رئيسية في الوزارة، وهذه الإدارة ترتبط بأحد الوكلاء، وهكذا بالنسبة لباقي الإدارات في الفرع الواحد، فيتلقى الموظف من الوزير تعليمات تختلف عن التعليمات التي يتلقاها من الوكيل أو من مدير الفرع.
أما من ناحية الإشراف والرقابة، فربما يتم الاعتماد بشكل مباشر على وكيل الوزارة أو مدير الفرع بما يرفعه من تقارير دورية عن الإنجازات والصعوبات التي تواجه الفرع، أو عن مشكلة معينة، وبالتالي فإن الآراء والمشاكل التي لا يحبذها الوكيل أو مدير الفرع قد لا ترفع إلى الوزير، ناهيك عن عدم وجود آليات رقابية مناسبة.
وفي هذا الصدد يقول علماء الإدارة المركزية المتطرفة كثيراً ما تؤدي إلى شل عمل المستويات الإدارية وإعاقة حركتها، بينما تؤدي اللامركزية الواسعة إلى إشاعة الفوضى وفقدان الإدارة لزمام المبادرة، فتتعدد مراكز القوى ويضيع التنسيق، وعليه يجب مراعاة اللامركزية المنضبطة، وإعطاء الصلاحيات للفروع في كافة المناطق، مع الأخذ في الاعتبار أنظمة المتابعة والإشراف على هذه الفروع حتى لا يساء استخدام هذه الصلاحيات فيظهر فيها الواسطة والمحسوبية والرشوة بسبب ضعف الرقابة عليها.
كما ينبغي على الجهات الرقابية العمل على مهمة استراتيجية لتقييم أداء الوزارات في مجال الإشراف على فروعها في مناطق المملكة المختلفة، يمكن من خلالها معرفة جوانب القوة والضعف في عملية الإشراف، ومعرفة سلبيات وإيجابيات تجربة اللامركزية الإدارية في المملكة، كما ينبغي أيضاً على الوزارات الحكومية العمل على تفعيل دور وحدات المراجعة الداخلية في الفروع وذلك من أجل تدعيم المساءلة وإضفاء المصداقية على التقارير المرفوعة إلى الوزراء من قبل المستويات الإدارية المختلفة.