كان أبناء مدينتي يقتاتون على الفرح، فهو الوجبة المشبعة لنهم أرواحهم النقية.. لا تراهم إلا وهم يتدثرون بدفء الأنغام في لياليهم الشتوية الطويلة.. كان العيد عندهم شجرة يهرعون إليها يستظلون تحتها عندما تنال نوائب الدهر وطوارق الشؤم من قلوبهم الوديعة الحالمة.. كانت تلك الشجرة تكفيهم رغم صغر مساحة ظلها إلا أنهم يتوافدون إليها تقودهم النية الصافية، وتوحدهم الحكمة، ويبقيهم إلى جانب بعضهم العدل والمساواة بين غنيهم وفقيرهم، بين شيخهم وراعيهم.. يجتمعون ملتفين متشابكين كما أغصانها تتدلى عليهم ثمار رفقتهم الطويلة الأمد ينساب إليهم النور الذي ينعكس على وجوههم فيزيدها طهرا وإشعاعا.. كم بات أبناء مدينتي يتضورون شوقا لتلك الليالي التالية للشهر الكريم! ويعلمون أنها كريمة معطاءة بالأنس والألفة والتآلف فيما بينهم، وبذلك المستوى من القناعة والوعي أن الفرح لا يكون منظما مقننا يسكب في قالب مؤطر باهت لا يخرج بالشكل الذي يرغبونه..
أبناء مدينتي يؤمنون أن العيد هو تجانس وتقارب الأرواح في جسد واحد.. يحتسون الفرح مع فنجان القهوة الذي يدور عليهم جمعيا في اللحظة ذاتها. ويشبعون أرواحهم حبا ونقاء وطربا دونما أن يكلفهم ذلك الفرح شيئا..
كانوا يسمرون تحت ضوء (الأتاريك)، ويشعلون الحطب فيما بينهم ويلتفون حوله، ومن يرى في نفسه القدرة على تسوية صفين للخطوة أوالرحفة يتناول (التنكة)، والآخر (المهراس) وتبدأ ليلتهم السامرة في انتشالهم والتحليق بهم في فضاء من المتعة والطرب وتسير بهم ساعات الليل حتى يشبعوا المكان والزمان احتفاء وفرحة، ويمررون العيد من خلال حناجرهم إلى صدورهم، ويتركونه يبقى هناك فرحة تعمر النفس لأيام وأيام، وتخلق روحا جديدة أكثر تقبلا وتماهيا مع الأيام التابعة للعيد.. كانت مثل هذه الليالي السامرة تجعلنا نفرق بين الفرح والترح.. بين أن ندخل سرداب عزاء أو مكان أفراح وعيد يجعلنا نتذوق معنى الحياة.. ذلك عيدنا وهؤلاء أبناء مدينتي الذين عندما تسمع موسيقاهم المستوحاة من الأشياء المحيطة والبسيطة تشعر بالرغبة في الاندماج في صفوفهم وتنقية روحك من شوائب الزمن العالقة في الذاكرة، خصوصا وأنت تشاهد ذلك التناغم فيما بينهم وعلامات السرور التي تملأ المكان بضجيجها وقوة التعبيرات الصادقة..
هذا هو عيد (التنكة) تلك القطعة الحديدية المجوفة التي كانت تحفظ السمن أو التمر ثم حولت إلى آلة تعبث بالقلوب والوجدان..
أي عيد أجمل من ذلك العيد الطيني وأقدامنا تلامس الطين دونما عازل يفصلنا عنه؟
عودوا إلى عيد التنكة والطين فهو أبقى وأنفع وأحيا لي ولكم.