تتميز المجتمعات الغربية بتخلّصها من 'عقدة النقص' فيما يخصّ تقبّل الهزيمة والسعي مجدداً لتحقيق نتيجة أفضل، إن لم يكن الهدف هو تحقيق النتيجة الأفضل، وهذا دليل على الوعي بالوجود والحياة وطبيعتها

الجميل في مونديال كأس العالم في البرازيل لهذا العام 2014، أنه نقلنا إلى حالة خاصة من متعة كرة القدم، حتى على مستوى الكتابة لمن هم غير مهتمين بالجانب الرياضي الصرف أمثالي، حيث حمل المونديال معه عددا من المفاجآت غير المتوقعة التي تشبه الصدمات لمشجعي منتخبات كانت مرشحة للمنافسة على البطولة.
ظهر طفل هولندي صغير يبكي بحسرة في حضن أمه بعد هزيمة منتخب بلاده أمام الأرجنتين، والتقطت كاميرا الملعب اللاعب (آريين روبين) وهو يواسيه. وسبق هذا المشهد، مشهد آخر لطفل برازيلي بكى بحرقة بعد هزيمة البرازيل بسبعة أهداف مقابل هدف، ظهر الطفل يكبح حرقة وهو يضع مشروباً غازياً كبيراً على وجهه، وبدا البعض يواسيه بالابتسامات والكلمات.
لم يقتصر الشعور بالهزيمة على الأطفال، بل ظهر أيضاً في عالم الكبار، حيث شاهدنا المشجع البرازيلي الكهل الذي ظهر محتضنا نموذجاً لكأس العالم - كطفل - بعد هزيمة منتخب بلاده أمام ألمانيا، كما شاهدنا أيضاً مشجعي منتخب هولندا من الكهول والحزن بادياً على وجوههم، وعلى مستوى اللاعبين والمدربين ظهرت مواقف مشابهة واسى فيها اللاعبون زملاءهم بشكل إنساني جميل يوحي بأهمية المنافسة، وبأنّ كرة القدم ليست معركة يرتقي فيها المنتصرون على جثث القتلى!
في مؤسسات التربية الغربية، ومنها الأكاديميات الرياضية، يتعلّم الأطفال مبكراً تحقيق الهدف، ولكنهم في المقابل يتعلمون كيف يخطئون ويذوقون طعم الهزيمة، على اعتبار أن التغيير يعني النجاح والهزيمة، والإصابة والخطأ، هي حالات كونية لا بد أن نمرّ بها كما تمرّ بها معظم الكائنات، إذ هي حالة موقتة غالباً لا تستمر، ولا سيما إذا ما عددنا أنه لا يوجد فشل في الحياة بل يوجد تراكم خبرة نتعلّم منه، والفشل الحقيقي هو حين نتوقف عن التعلُّم، وعن المحاولة والخطأ وبالتالي نتوقف عن اكتساب خبرات جديدة.
تبدو الظواهر الاجتماعية في الثقافة قابلة للملاحظة، ولذلك تشير أدبيات المجتمعات العربية إلى عدم تقبّل حالة الخطأ، وتميل إلى انتقاص من يقع في الخطأ لمرة واحدة، أو على الأقل من المرة الأولى؛ وهذا نتيجة التضخيم من العيب التي تظهر في حالات الانتقاص والتحريم، كما تعكس وهم الأفضلية على اعتبار أن المجتمع خال من الأخطاء والآثام، وهو مجتمع مثالي يمثّل الخيرية ويحققها وهذا غير صحيح إطلاقاً، فالثنائيات كثيرة وموجودة في الكون بشكل ملاحَظ ومنها الصواب والخطأ، والهزيمة والانتصار.
وعلى هذا الأساس يعد التضخيم من شأن الخطأ أو الهزيمة أمراً غير مقبول، عدا كون هذا الأمر حالة سريعة التلاشي، وهنا نلاحظ أن وقع الهزيمة في الساحرة المستديرة أكثر بؤساً على أنفس الجماهير من اللاعبين؛ لأن اللاعب في داخل الملعب هو الذي يعيش حقيقة الحالة التي يمرّ بها، ولذلك هو أكثر دراية وإدراكاً لهذه الحالة من غيره.
تتميز المجتمعات الغربية بتخلّصها من عقدة النقص فيما يخصّ تقبّل الهزيمة والسعي مجدداً لتحقيق نتيجة أفضل، إن لم يكن الهدف هو تحقيق النتيجة الأفضل، وهذا دليل على الوعي بالوجود والحياة وطبيعتها، وفي هذا الإطار شاهدنا عددا من اتحادات كرة القدم العالمية تجدد الثقة بمدربي منتخبات بلادها رغم الخسارات الموجعة، ورغم طعم الهزيمة المرّ أحيانا، وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنه يدل على أن ثمار النجاح إن لم تُقطف مبكراً فإنها تحتاج لوقت قد يكون طويلاً لكي يتم قطافها.
وفي العالم العربي، وفي الشأن المحلي خاصة، نلاحظ ثقافتنا المتخلفة من خلال مظاهر عديدة، ومنها على سبيل المثال منافسات كرة القدم، فمجرد هزيمة فريق ما يتم الشعور بحالة مزرية من الفشل، وبالتالي إسقاط الحالة إما على المدرّب أو على الحكم، وهذه الحالة توحي بأن الاستراتيجيات تراكم الخبرة والتخطيط للنجاح شبه مفقودة، فالكل يريد قطف الثمرة قبل أن تنضج أحياناً!
وعلى مستوى آخر، يتعلق بالجماهير، نجد ثمة حالة خاصة أيضاً وهي التعبير بطريقة بدائية، سواء كان هذا الفريق أو ذاك فائزاً أو مهزوماً، فإن حالة الغضب موجودة كقوة كامنة، تصل إلى تدمير الممتلكات، وقد يصل الأمر إلى حالة من التشنج والتعصب الأعمى في أن تتسبب اللعبة بكراهية طاحنة بين بعض الفرق المحلية والمنتخبات العربية، ولنتذكر معارك منتخبي مصر والجزائر التي وصلت لمستوى حمل السلاح، والتسبب بأزمة دبلوماسية بين البلدين!
بينما نجد جماهير بعض المنتخبات الأخرى - شاهدناها أخيراً في المونديال - تقوم بتنظيف المدرجات من بقايا المهملات بعد انتهاء المباراة حتى لو الفريق مهزوماً.. هذه حالات نادرة لا تتوفر إلا بالوعي والشعور والاقتناع بقيمة الإنسان العليا، وهي إنسانيته.