المسلم الذي يقضي يوم صومه نائماً غير عامل، وغير ممارس لحياته اليومية، يفوته أحد أهم مقاصد الصيام وهو تحقيق التقوى وكسر الشهوات بكل صورها والتحكم في الجوارح والتدرب على الارتقاء في التعاملات بروح وأخلاقيات الصيام
تتفاعل منافع الصوم مع عناصر تكويننا الثلاثة: فهو يصقل العقل ويصفي الروح ويقوي الجسد، وعلى قدر التزام المؤمن بروح الصيام وعلى قدر فهمه لتعاليمه والتزامه بواجباته وتحريه لآدابه يكون انتفاعه بهذا الشهر، فيأخذ منه على قدر عزمه بإذن ربه ذخيرة تعينه فيما بقي من حياته وتكون له زاداً في آخرته ومعاده.
إننا في رمضان وللأسف الشديد نرى شريحة كبيرة لا تتعامل مع الصوم كما ينبغي فهماً والتزاماً واستثماراً لما به من منافع جمة، وعلى العكس من ذلك نرى على سبيل المثال أن كثيرين من أصحاء وأقوياء المجتمع يُخرج الصوم منهم الكسل والخمول، فيؤثرون السكون والراحة والنوم أثناء الصيام ما وجدوا لذلك سبيلاً، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ويحسبون في ذلك منفعة لهم وتوفيراً لطاقاتهم ومحافظة على صحتهم، وهذا مخالف تماماً للحقائق العلمية.
إن للحركة والعمل والنشاط أثناء الصيام في الأشخاص الأصحاء فوائد عظيمة.. جسدية (فسيولوجية) وعقلية وروحية، فمن الفوائد الجسدية أن الصيام الإسلامي يساعد على التخلص من سموم الجسم وتحريك وحرق المخزون الدهني، بالإضافة إلى تنشيط عمل بعض الوظائف التي قد تكون خاملة طوال العام، كما يحقق الراحة لبعض أعضاء الجسم التي تعمل طوال العام بدون راحة مثل الجهاز الهضمي (المعدة والأمعاء).
إن الحركة والنشاط يحققان ما لا يحققه السكون والخمول والكسل أثناء الصيام، فالحركة العضلية في فترة ما بعد الامتصاص الغذائي (فترة الصيام) تؤدي إلى أكسدة أنواع معينة من الأحماض الأمينية للاستفادة من الطاقة الناتجة عن هذه الأكسدة، وبعد استفادة العضلات من هذه الطاقة يتكون حمض أساسي من هذه الأكسدة يدخل في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد ويسمى هذا الحمض (الألنين)، وبذلك فإن عملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية.
وبعد استهلاك الجهاز العضلي للجلوكوز القادم من الكبد للحصول على الطاقة، يتجه الجسم إلى الدهون (المخزون الدهني) فيقوم بأكسدة الأحماض الدهنية وتحريك وتحليل وحرق الدهن في الأنسجة الشحمية، وبهذا فإن الحركة أثناء الصيام تعتبر بمثابة عمل إيجابي وحيوي يزيد من كفاءة ونشاط عمل الكبد والعضلات ويخلص الجسم من السموم والشحوم، وهذا ما يسمى بعملية (الهدم)، وبدون هذه العملية أثناء الصيام لا يتم التخلص من الشحوم والسموم في الجسم.
وفي الحركة العضلية كذلك تثبيط لصنع البروتينات في الكبد والعضلات (عملية البناء)، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة كانت تستخدم في تكوين البروتينات لو أن الصائم قضى يومه نائما أو ساكنا، علما أنه في حاجة إلى هذه الطاقة أثناء صيامه.
وبشكل عام فإن الحركة أثناء الصيام تقوم بدور تنشيط عمليات الهدم أثناء النهار، فتتحرك الطاقات المختزنة وتنظف الأعضاء من السموم المتراكمة في الأنسجة الدهنية.
والنوم والكسل والخمول أثناء النهار تعطل هذه الفوائد وتعطي الجسم إشارات خاطئة تؤدي إلى استهلاك الطاقات في صناعة البروتينات بدلا من إبقائها في صورة قابلة للاستعمال السريع ومتاحة للصائم للاستفادة منها أثناء صيامه، كما يبقى المخزون الدهني والسموم كما هما في الجسم.
أضف إلى ذلك أن النوم أثناء النهار والسهر طوال الليل في رمضان يؤديان إلى اضطرابات في عمل الساعة البيولوجية في الجسم، حيث إن هناك هرمونات محددة تقوم بتحفيز أعضاء الجسم على الحركة والنشاط تكون في أعلى مستوياتها في الفترة الصباحية وأقلها في الليل مثل هرمون (الكورتيزون).
وهناك هرمونات أخرى تساعد على الارتخاء والنوم، وتعلم الجسم أن وقت الراحة والنوم قد حان، تكون في أعلى مستوياتها في الفترة المسائية مثل (هرمون الميلاتونين). ويؤدي تحويل الليل إلى نهار وتحويل النهار إلى ليل إلى اضطراب وتعطيل لهذه الهرمونات واضطراب للجسم بشكل عام.
أما فيما يخص العقل فإن المسلم الذي يقضي يومه نائماً غير عامل وغير ممارس لحياته اليومية بكل ما فيها من اختبارات وابتلاءات وتحديات ومشاكل وعراقيل يفوته أحد أهم مقاصد الصيام وهو تحقيق التقوى وكسر الشهوات بكل صورها والتحكم في الجوارح والتدرب على الارتقاء في التعاملات بروح وأخلاقيات الصيام، نعم تفوته فرصة تدريب العقل على تطويع جوارح الجسد وشهوات النفس لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب علَيكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم لعلكم تتقون.
وفيما يتعلق بالروح فإنه لا شك بأن الصائم العامل بجد في نهاره يستشعر لوعة الجوع والعطش أكثر من الصائم الخامل النائم، فتبعث هذه اللوعة في فؤاد الصائم الإحساس بالضعف وتجسد له صورة من صور الحرمان فتذكره بافتقاره لربه وعبوديته لخالقه.
وعلى قدر استشعار الإنسان لهذه العبودية لخالقه يكون تأهل روحه للارتقاء في مدارج السالكين، وهي من أهم صور التربية الوجدانية التي لا يكتمل بناء شخصية المسلم بدونها.. والصائم النائم في فراشه الكسول غير العامل طوال يوم صومه تضيع عليه فرصة معايشة مثل هذه المشاعر والارتقاء الروحي المصاحب لمثل هذا التعايش.
إن أوهام ومخاوف العمل الجاد المثمر والحركة الدائبة البناءة أثناء الصيام لم تأت من فراغ وإنما عرّاها رمضان لنا وأظهرها جلية واضحة شاخصة فيمن تأصل فيهم الكسل والخمول واللا فعالية، وهذه اللا فعالية هي من أكبر الآثام في حياة أي إنسان.
نعم.. فألا يكون لوقتك ولعمرك قيمة في بناء مجتمعك وخدمة غيرك وعبادة ربك بسجودك له في محراب الحياة.. هو من أكبر الكبائر في حياة أي إنسان، وقد فهم الأولون ذلك.
إن شهر رمضان سيُخرج منا أفراداً وجماعات وأمة خير ما فينا ويطرد منا شر ما فينا، فإن لم يجد ما يُخرجه من كثير منا إلا الكسل والخمول، فهو ما سنراه شاخصاً عياناً عند هذه الشريحة في شهر العمل والصبر والجهاد.
إن فوائد الصيام العديدة لا يمكن في مثل مقال كهذا أن نحصيها، وقد آثرنا أن نتعرض لما تيسر منها، ولكن أحسب أن هذه الفوائد لا تحصل إلا بالالتزام بآداب الصيام وأسراره الباطنة، فمن حقائق رمضان التي يغفل عنها كثيرون أن شهر رمضان لم يشرع من أجل أيام رمضان فقط.. ولكنه كذلك من أجل ما بعد رمضان. إنه شهر أراد الله به أن يكون بمثابة التدريب العملي الذي يتغير به الإنسان المسلم ليصبح بعد رمضان خيراً منه قبل رمضان، وإلا فإن حكمة الصيام لم تتحقق، وهذا التغيير لا يكون ولن يكون إلا إذا دخل رمضان قلوبنا وحرّرها لتكون أكثر خشية وتقوى، وألين للعبادة والطاعة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.