أيام الشهر الفضيل تمضي تباعاً، ولن يوقف انصرام الأيام أن نفكر فيما مضى قبل سنوات بعيدة، بل إن التصرف الحكيم هو أن نعمل بكل جدٍّ للاستفادة القصوى من هذه الساعات المباركة، فهي ميدان العمل الحقيقي

حلّ الشهر الكريم وحلّت معه الشكوى السنوية المتكررة، ومختصرها المفيد: أن رمضان الآن ليس هو رمضان الذي كنّا نعيش فيه قبل سنوات!
أضحت الشكوى من تغير الزمن وتبدله، متكررة بتكرر الفصول والمناسبات، وكأنما وجدنا مخرجاً سهلاً لأنفسنا نلقي عليه إخفاقاتنا، وعدم قدرتنا على الوصول إلى سقف التوقعات والآمال، فكثير منا يجزم أن مستوى الاستفادة من شهر رمضان تراجع كثيراً، والسبب هو أن روحانية الشهر الفضيل تراجعت - هي الأخرى - بشكل ملاحظ خلال السنوات الماضية، وهذا صحيح في جانب، وغير صحيح في جوانب أخرى.
بالطبع من المعروف أن القنوات الفضائية تحشد ما قل أدبه وتراجع مستواه الفني ليعرض في الشهر الفضيل، ومن الملاحظ - أيضاً - أن سقف الجرأة بعرض مواضيع التابو الاجتماعي قد ارتفع كثيراً – للأسف - دون مراعاة لخصوصية الشهر الكريم، بالإضافة إلى تكاثر برامج المسابقات التافهة واللقاءات الفارغة وغيرها، مما يجرح الصيام، ويجعل الإنسان مشتت الذهن، بعيداًَ عن روح الصيام الحقيقية، لكن من جانب آخر، تكاثرت أجهزة الهاتف الجوال الذكية، والتي تحوّلت إلى مكتبة تلفزيونية متنقلة مع الفرد نفسه، دون الالتزام بوقتٍ ومكان محدد، فأضحى الفرد قادراً على متابعة ما يشاء وقت ما يشاء، فضلاً عن سهولة المتابعة، بالإضافة إلى وجود مواقع إلكترونية متخصصة في الفيديو، تجعلك أنت المتحكم الوحيد في وقتك، فلا أحد - كما هي الحال في القنوات التلفزيونية - يحدد ما تراه في ذلك الوقت! لذا فالقول إن التلفزيون سرق منا دقائق الشهر الفضيل غير صحيح أبداً، فأنت من يحدد برنامجك اليومي، وأنت من يحدد متى تقرأ القرآن الكريم، ومتى تصلي النوافل، ومتى تختلي بربك الكريم.
أما الحديث عن غياب الأجواء الرمضانية فتلك أسطورة أخرى تتعجب من استمرار ترديدها، فتغيّر ظروف المكان وتغير أسلوب ومستوى العلاقات الإنسانية هو الذي أثر على ممارستنا للأجواء الرمضانية، ففي السابق مثلاً كان شباب المنطقة الوسطى يقضون ليالي الشهر الفضيل بلعب الكرة الطائرة والمسامرة، بينما تحوّلت أمسيات شباب اليوم إلى لقاءات البلايستيشن وألعاب الفيديو المتقدمة. ومتابعة ما يستجد في وسائط الاتصال الاجتماعي المختلفة، التي بدورها ساعدت الجميع - وليس الشباب فقط - على تقريب البعيد، وعلى تسهيل التواصل اليومي بين الفرد من جهة وأقاربه وأصدقائه من جهة أخرى بلمسة زر خاطفة، فهل رمضان هو تغيّر؟ أم نحن من تغير؟
أما القول بابتعادنا عن العبادات فهو قول غير صحيح، بدليل تزايد المنتظمين والمنتظمات على صلاتي التراويح والقيام في المساجد المختلفة، والحرص على الصلاة خلف إمامٍ ذوي صوت شجي وتجويد محترف، حيث أضحى الناس يتناقلون جداول المساجد ومواقعهم، ومؤخراً تطبيقات إلكترونية تساعد على تسهيل الوصول إلى المسجد المستهدف، وهو الأمر الذي لم يكن موجوداً قبل سنوات قليلة، وانظر كذلك إلى انتشار مشاريع تفطير الصائم، التي تكاد تكون موجودة الآن في أغلب المساجد والجوامع، وفيها تحقيق لأهدافٍ كثيرة، منها الحصول على أجر الصائم من الله - سبحانه وتعالى -، وكذلك زيادة الإلفة والمحبة بين أفراد المجتمع نفسه والمقيمين من العمالة وغيرهم من جهة أخرى. بل تجاوز الأمر إلى قيام المجموعات التطوعية الشبابية بحملات التفطير عند إشارات المرور وفي أماكن الانتظار وغيرها، وهو ما زاد من روحانية الشهر، وحقق تقارباً بين أبناء المجتمع الواحد، وكذلك حينما ننظر إلى البرامج المفيدة في القنوات التلفزيونية والتي كانت محصورةً ببرنامج ديني واحد أو اثنين، وهي اليوم كثيرة ومتعددة، وموجودة على شبكة الإنترنت في الوقت الذي ترغب، دون إغفال ظهور موجة جديدة من برامج تنمية الذات والتجارب الناجحة، والتي لم تكن موجودة أصلاً ضمن خريطة البث الرمضاني، ولكنها تحولت الآن إلى وجبة ثابتة، فلمَ لا نستفيد منها، ونترك عنا ذلكم الغثاء الباقي؟
للأسف نحن نبحث عن شيء ما نلقي عليه كسلنا وحبنا للراحة والدعة، والأسهل هنا هو أن نحنّ إلى الماضي أو ما يطلق عليه علماء الاجتماع بحالة النوستالجيا، وهو مصطلح علمي يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، يظهر حينما يشعر الإنسان في وقته الحاضر بعدم قدرته على التوافق مع التغيرات الحديثة أو عدم قدرته على إنجاز ما يطمح إليه من قيم وأهداف، فيكون الحل السهل عليه أن يحنّ إلى ذكريات الماضي، حتى لو لم يكن جميلاً أو حتى تاريخ نجاح له، والدليل على ذلك هو أننا في بعض الأحيان نحنُّ إلى أيام مضت؛ وأيضا كنا نحنّ فيها إلى أيام مضت قبلها، وهكذا دواليك، دون أن نشعر أننا أضحينا أسرى قصص الماضي؛ هروباً من الواقع فقط!
أيها الأصدقاء.. أيام الشهر الفضيل تمضي تباعاً، ولن يوقف انصرام الأيام أن نفكر في ما مضى قبل سنوات بعيدة، بل إن التصرف الحكيم هنا هو أن نعمل بكل جدٍّ واجتهاد للاستفادة القصوى من هذه الساعات المباركة، فهي ميدان العمل الحقيقي، وليس مجرد الحلطمة، والبكاء على ذكريات فيها كثيرٌ من المبالغة والأحلام الزائفة.. فدع عنك الماضي واغتنم يومك الآن.