داعش أنموذج يعيد إنتاج المشهد التاريخي للجماعات المتطرفة العمياء بوجه عام، ويكرس لمفهوم مختل عقديا يتطرف ويستقبح ما سواه، مما يعني أن تظل القطيعة بين روح الإنسان وعقله كمأزق تاريخي تراوح فيه الذهنية الإسلامية المنتجة لمثل داعش وهمجيتها
لا أدري من أشار على تنظيم داعش باختيار اللون الأسود ليكون اللون المستخدم لملبوساتهم، وتحديد خارطاتهم، وعمائمهم، ورسم شعاراتهم، وعلمهم الأسود؟!
يقول الدكتور عبدالسلام الوايل: إنه قد يكون لدلالات شرعية وليست نفسية، أو على أنها قد تعود لبني العباس، أو أنها قد تكون راية الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن ذلك ليس مؤكدا على أية حال، إذ لا سند تاريخي على ذلك.
اللون الأسود بدلالاته ليس لونا مقبولا، فالغراب مثلا بلونه الأسود محل تشاؤم قديم وحديث في معظم المعتقدات والحضارات الإنسانية، واللون الأسود في رايات الدول دلالة على الثورة، والثورة في الغالب عمياء ولا تعرف أحدا، كما لا تعرف مستقبلها ونتائجها، كل شيء تقريبا يتحدث عن سوء معاني اللون الأسود ومقاصده، وهذا يدل ربما وعلى شكل توقعات بمستقبل المجتمع العربي والإسلامي المشوش، بوجود هؤلاء الذين يرفعون الرايات السوداء الداكنة، وأظن أن النفسية والفكر الذي يرون العالم من خلاله، له دور كبير في اختيار اللون الأسود واستحسانه، فالسلوك الهمجي العنيف يتحدث عن نفسيات سوداء وقبيحة.
يمكن أن نعرّف اللون الأسود بأنه ذلك الانطباع الـذي يترك في العين عندما لا تأتي أي أشعة ضوئيـة باتجاه العين، أي لا تتحفز أي من المستقبلات اللونية في العين بفعل الأشعة الضـوئية.. ويقـول خبراء علم النفس أن للون تأثير سيكـولوجي على النفس، فتحدث أحاسيس ينتج عنها اهتزازات بعضها يحمل سمات الراحة والاطمئنان، والآخر يحمل صفات الإرهاق والاضطراب، وتنقسم هذه التأثيرات إلى: تأثيرات مباشرة، كالفرح والحزن تأثيرات غير مبـاشرة، تتغير حسب الفرد، ولو تكلمنا عن اللون الأسود سنجد أنه لون يرمز للوقار والتمسك بالتقـاليد، ويفضله أكثر الشخصيـات الغامضة، التي تحب أن يحترم الغير حياتها الخاصة، والمفارقة أن اللون الأسود مع كل ذلك وما يعكسه ليس لونا حقيقيا ضمن الألوان السبعة الأساسية!، فهو غير مـوجود في ألوان الطيف، والأسود يمتص جميـع الألوان ولا يعيد أي لون منها.
بالعودة إلى الفكر الفلسفي حول استحسان الأشياء ودلالاتها التاريخية، فإن هيجل مثلا يؤكد على ضرورة قراءة التاريخ، من خلال نوع الفكر المسيطر على العصر والمحيط الذي ينشأ فيه، ولو نظرنا إلى الفكر المسيطر على المنتمين إلى الجناح الديني المتطرف والممثلين له، سنلاحظ السوداوية التي يقرؤون بها الحاضر بموازاة تخيلهم للماضي!، فهم لا يستحضرون من الماضي إلا أكثره قتامة وسوداوية وبشاعة، ويعتقدون بارتباطهم الوثيق بالفترات الدموية التي يرون فيها تبجيلا وتمجيدا للدين الإسلامي، وأنه الأكثر مجدا وعزة وكرامة للمسلمين!، فهل نحن فعلا كما يصورنا هؤلاء؟
هنا في الواقع نوع من الإسقاط اللا منطقي لتغير حيثيات كثيرة بين الزمنين وموجوداتهما المادية والثقافية، والفكر الداعشي الآن يعيش بعيدا عن واقعه، واستحضار لفكر ينطلق من محور إقصاء الآخر فكرا وموضوعا وشكلا، ويكرس لوحدانية الدنيوي، في حالة تتناقض مع فكرة البناء الطبيعي للحياة القائم على التنوع الكامل وازدهاره المستمر، هنا يعترض المنطق على تلك الفكرة العنصـرية ذاتها الطاردة لغيرها ويلفظها بعيدا؛ لأن من شأن ذلك القضاء على أي نوع تفاعلي خلاق، قد ينتج إبداعا إنسانيا في المستقبل، بل إن ذلك قد يعيد كارثة التاريخ البشرية التي فعلها الإنسان نفسه أمثال الإسكندر المقدوني، وهتلر وغيرهم، وحاولوا من خلالها السيطرة على العالم ونشر الفكر الأحادي.
داعش الآن ترفع نفس راية الطريقة والوسيلة البشعة المعادية للإنسانية، تلك التي تقوم أساسا على أيديولوجيا منهجها الكراهية والانتقام، مع اختلاف في الفكر والدوافـع، المعلنة حتى الآن على الأقل.
لا يمكن في الواقع إغفال اتساع دائرة العداء لطيف واسع من المستحدثات والمخترعات، وحتى ما كان مشكلا للتراث كالتماثيل والمنحوتات التاريخية والعادات والتقاليد والملبوسات، بدعوى إمكانية تحولها إلى خطر قد يؤدي للسقوط في الوثنية والفساد، حسب رأيهم ورؤيتهم!.
إننا إذًا أمام نموذج يعيد إنتاج المشهـد التاريخي للجماعات المتطرفة العمياء بوجه عام، ويكرس لمفهوم مختل عقديا يتطرف ويستقبح ما سواه، مما يعني أن تظل القطيعة بين روح الإنسان وعقله كمأزق تاريخي، تراوح فيه الذهنية الإسلاميـة المنتجة لمثل داعش وهمجيتها، كل ذلك قد تعبر عنه قطعة قماش سوداء ترفعها في وجه بشر يرونك بما تعتقد، ولا تراهم إلا بما تعتقد أنت فقط، وتصبغ مجتمعا بصبغة ليست من صميم روحه ووعيه.