على الناقد احترام منقوده، وذلك لا يعني الاتفاق معه، بل يعني احترام كونه صاحب رأي، بعبارة أخرى: لا بد أن يرى الناقد منقوده؛ أي يبذل الجهد في تصوّر أفكاره في إطار معقول من وجهة نظر صاحبها
الأخلاق الإجرائية تسعى إلى تحقيق شروط إمكان النقد من خلال مهمتين أساسيتين: أولا: إقامة علاقة منصفة بين الناقد والمنقود ومجتمع المعرفة. ثانيا، عدم تحويل النقد بالضرورة إلى نقد أخلاقي. أي أننا هنا أمام منظومة أخلاقية يتوقف دورها في توفير شروط النقد بدون التورط في تحديد توجّه هذا النقد. هذه الإجراءات تنطلق من فكرة أساسية يبدو أن كل المتصدين لفعل النقد سيوافقون عليها، وهي أن النقد يفترض أن يتوجه لموضوعه وليس لموضوع متخيّل بدلا عنه. بمعنى أن الناقد (أ) الذي يريد نقد العمل (ب) بالضرورة ملتزم، على الأقل نظريا، أن يتوجه نقده لـ (ب)، وليس له شيء آخر متخيّل قد يضعه تحت شعار (ب).
هذا الالتزام يمكن أن نستنبط منه سلسلة من العمليات الإجرائية التي يمكن أن تساعد على تحقيقه. واقعيا نعلم أنه كثيرا ما يتوجه النقد لشخصية متوهمة أو فكرة مصطنعة لا تعبر بأمانة عن الشخص أو الفكرة التي يتم إجراء النقد باسمها. لذا فإننا نسمع كثيرا من أصحاب الأفكار المنقودة أن النقد المقدم لا ينتمي لأفكارهم، ولا يعبّر عنها بشكل دقيق، وأنهم يشعرون بأن الكلام موجه ضد دعاوى لم يطلقوها ولا علاقة لهم بها؛ لذا يبدو لهم أو لكثير منهم أن الوصف الدقيق لما تعرضوا له هو تجن واتهام وليس نقدا.
هنا نحن أمام عدة احتمالات منها: أولا؛ أن الناقد فعلا لم يقدم ما يبرهن على أن نقده موجه للمنقود فعلا، وليس لصورة متخيّلة قدمها عنه. ثانيا؛ أن الناقد وصل بأفكار منقودة إلى نتائج إضافية بعد عرض الأفكار الأساسية بشكل دقيق، ولكنه لم يفصل استنتاجاته الخاصة عما قاله المنقود فعلا. ثالثا؛ أن الناقد قدم فهما جديدا لأفكار منقودة، ولكنه لم يفصل بين أصل القول وبين الفهم الجديد الذي قدمه. رابعا، يكون الناقد قد قدم كل ما عليه من تصّور دقيق للأفكار المنقودة، ولكن المنقود يريد التملّص من أفكاره وآثارها. كل هذه الحالات تسبب إشكالا في التواصل داخل العلاقة النقدية. هذا الإشكال لن ينته بالتأكيد حتى مع الأخلاق الإجرائية، ولكن هدف هذه الأخلاق هو الدفع بالعلاقة النقدية باستمرار إلى مستويات أعلى من التواصل. هنا بعض الالتزامات الأخلاقية الإجرائية التي يمكن أن تدفع باتجاه هدف التواصل أكثر.
أولا على الناقد احترام منقوده. احترام المنقود لا يعني هنا الاتفاق معه، بل يعني احترام كونه إنسانا صاحب رأي أو موقف، وأن نقده يتطلب الاستماع له أولا. بعبارة أخرى لا بد أن يرى الناقد منقوده. أي أن يبذل الجهد في تصوّر أفكار منقوده في إطار معقول على الأقل من وجهة نظر صاحبها. هذا يتطلب ـ في رأيي ـ ما يمكن تسميته بالقراءة المتسامحة الأولى. أي أن يبدأ النقد بعملية قراءة هدفها فهم الكاتب بشكل رئيس. أي أنها فترة قراءة مع تعليق الحكم. هذه القراءة تسمح بفتح المساحة بشكل أكبر لعملية التصوّر والاستيعاب مع تشويش أقل من نزعة الحكم وإصدار القول. هذه المرحلة تميّز النقد عن غيره من العلاقات التي ينطلق فيها الطرف الأول من موقف محدد سلفا. النقد يحتمل في داخله فكرة تبني موقف المنقود، لذا فمن حق هذه الفكرة أن تأخذ حقها في الظهور في أفضل صورها الممكنة. هذه العملية يمكن توضيحها أكثر من خلال الدراسة الأكاديمية. المشهد كالتالي: فصل دراسي مخصص لدراسة نظريات اقتصادية مختلفة ومتعارضة. الخطوة الأولى هي محاولة فهم هذه النظريات. دور الأستاذة هنا هو محاولة عرض أفكار النظرية وكما لو كانت هي صاحبة النظرية. هذا الإجراء هدفه إعطاء النظرية أكبر فرصة ممكنة للحضور. هذا يعني أن الطالبة حصلت على حقها في أن تُعرض لها النظرية بشكل جيد مما يكفل لها لاحقا تقديم تصورات نقدية عن هذه النظرية. لنتخيل المشهد الثاني حيث قدمت الأستاذة النظرية للمرة الأولى من خلال منظورها النقدي الخاص. بمعنى أن ما عُرض على الطلاب هو النظرية من وجهة نظر الأستاذة. في هذا المشهد فقدت الطالبات فرصة الاستماع لصوت النظرية أولا مما يعني أيضا إضعاف احتمال وصولهم إلى تصورات خاصة عن النظرية قد لا تتفق بالضرورة مع تصورات الأستاذة. إعطاء الفرصة للمنقود بالحديث أولا هو ما أعنيه بالاحترام هنا. هذا المستوى من الالتزام تجاه المنقود هو ما يجعل عملية النقد المنصفة أصعب بكثير في أوساط الصراعات المحتدمة. في تلك الأجواء مجرد سماع صوت الطرف الآخر يسبب قلقا وإرباكا وتوترا يحجب أي قدرة على التفكير المنصف. في تلك الأجواء تصبح عملية احترام الطرف الآخر تعني عدم احترام الذات وخيانة الجماعة والاصطفاف مع العدو وغيرها من التهم التي تسعى لقطع كل إمكان للتواصل يحفظ لجميع الأطراف حق الوجود والمشاركة. من علامات هذا الاحترام في الدراسات الأكاديمية الرصينة هو أن تتم العودة دائما للنصوص الأصلية التي كتبها أصحاب الفكرة أو التيار أو التوجه الفكري. من هناك تنطلق عملية النقد الحقيقية. في لب هذا المشهد تكمن مهمة الأستاذ وصل طالباته وطلابه بأكبر قدر ممكن من مصادر المعرفة. في المقابل في أوساط القطيعة فإن النصوص الأصلية يتم حجبها وإضعاف إمكانات التواصل المباشر معها واستبدالها برؤى معارضيها. أي أن يتم حجب صوت الفكرة التي يراد توجيه النقد لها. الأخلاق الإجرائية مهمتها الأولى هي إعادة الوصل بين أطراف عملية النقد، بدون هذا الوصل فإن عملية النقد تتعذّر من أساسها. احترام المنقود يعني إدراك قيمة وجوده وحقه في التعبير والمشاركة. يعني النظر في عينه كشريك رغم الاختلاف. هذا السلوك يفتح المجال لتلك المساحة المشتركة التي يمكن أن تولد فيها علاقة تواصل منصفة تبشّر بإنتاج حالة نقدية مبدعة.