من أهم الأسباب التي قد تحد من قدرة الناقد على التصوّر، تلك العلاقات التي تجمعه بموضوعات نقده. هذه العلاقات تشمل علاقته بالآخرين الذين يتفق أو يختلف معهم وعلاقته بالأفكار التي يتفق أو يختلف معها

كانت السمة الأولى للأخلاق الإجرائية المقترحة في المقالة السابقة، تقوم على دعوى قيام الأخلاق الإجرائية بربط جماعة النقد بعلاقة مقبولة أخلاقيا دون أن يتم تحويل عملهم النقدي لعمل تطبيقي خاضع لمنظوماتهم الأخلاقية. هذا فرق جوهري بين العلاقة المضمونية والعلاقة الإجرائية. العلاقة المضمونية تحوّل النقد تحت تأثير الالتزام الأخلاقي إلى نقد أخلاقي. بمعنى أن يصبح القول هنا هو ماذا تقول منظومتي الأخلاقية في هذه الفكرة أو هذا الكتاب أو أيا كان المنقود. في المقابل العلاقة الإجرائية تهدف لفتح مجال أوسع من الحرية من خلال الفصل بين الالتزام الأخلاقي الذي يؤسس للعلاقة العادلة بين الناقد والمنقود ومجتمع المعرفة من جهة ومضمون النقد من جهة أخرى. هذا يعني أننا يمكن أن نصل من الأخلاق الإجرائية ذاتها إلى حكمين متناقضين. هذا يعني أيضا ألا يتحول النقد الملتزم بالأخلاق النقدية الإجرائية إلى نقد أخلاقي. النقد الأخلاقي هنا يعني إصدار نتائج أخلاقية على موضوعات النقد. هذا يعني أن الأخلاق النقدية الإجرائية منفتحة على النقد الميتافيزيقي والإبيستمولوجي والعلمي والأدبي.. الخ. أي أنها التزامات أخلاقية يمكن أن يلتزم بها الناقد في قضايا خارج المبحث الأخلاقي دون أن يتحوّل عمله النقدي إلى نقد أخلاقي. هذه نقطة جوهرية لأننا يمكن أن نلاحظ بسرعة أن العلاقة الأخلاقية المضمونية تؤدي غالبا إلى تحويل العمل النقدي غير المشغول أساسا بقضايا أخلاقية إلى نقد أخلاقي.
يمكن مشاهدة هذا لدى المشتغلين بالعلوم، وفي الوقت ذاته لديهم معتقدات دينية وأخلاقية مضمونية، حيث يتحول عملهم في نهاية الأمر إلى قول أخلاقي على موضوعاتهم العلمية. بالتأكيد هذا خيار واستحقاق لكل فرد لكن الأكيد أن مساحة الحرية التي تتيحها تلك العلاقة الأخلاقية محدودة جدا، وهذا ما سيحد من قيمة النقد أيضا. على سبيل المثال المسيحي المتديّن الذي يتعامل مع نظرية التطوّر الداروينية قد يتحرّك كل عمله في الإجابة عن سؤال هل الداروينية متوافقة مع المسيحية أم لا. الاشتغال بهذا السؤال، وهو سؤال مشروع، في المبحث العلمي يؤدي غالبا إلى تضاؤل السؤال العلمي الأولي وهو ما هي الداروينية وما هي المسيحية، الذي برأيي يحتاج إلى التأسيس الوصفي لموضوع البحث قبل القول الأخلاقي فيه. بمعنى أن يسبق التصّور الحكم. أو كما يقول المناطقة: الحكم على الشيء فرع عن تصوّره. ما أقوله هنا هو إن العلاقة الأخلاقية المضمونية تحدّ من القدرة على التصوّر بسبب انشغالها العميق بمهمة إصدار الحكم.
من أهم الأسباب التي قد تحد من قدرة الناقد على التصوّر، تلك العلاقات التي تجمعه بموضوعات نقده. هذه العلاقات تشمل علاقته بالآخرين الذين يتفق أو يختلف معهم وعلاقته بالأفكار التي يتفق أو يختلف معها. هذه العلاقة جوهرية لفتح إمكان التصوّر أو إغلاقه. هذه العلاقات تحديدا هي موضوع الأخلاق الإجرائية. أي الالتزامات الأخلاقية تجاه الأفكار والأشخاص التي تجعل من تصوّر ما يقولون ممكنا ودقيقا قدر الإمكان. بمعنى أنها الإجراءات التي يمكن أن تسمح لك برؤية إشكالات الآراء التي تتفق معها ونقاط قوّة الأفكار التي تختلف معها. الأخلاق المضمونية مرشحة بقوّة لأن تصبح تهديدا كبيرا لهذه إمكانية خصوصا الأخلاق المضمونية الحادة والمتوترة المدفوعة بالتعصبات بكافة أنواعها. هذا النوع من الأخلاق المشغول بالقطيعة مع المخالف سيصعب عليه بالتأكيد إقامة علاقة تسمح بتصوّر ما يقول بشكل عادل. بمعنى أننا هنا أمام مهمتين متناقضتين لا يمكن أن تقوم بها الأخلاق المضمونية الحادة: مهمة القطيعة ومهمة التواصل. هنا تبدو الأخلاق الإجرائية على خلاف عميق مع هذا النوع من الأخلاق الحادة. بمعنى أن الأخلاق الإجرائية تسعى إلى توفير شروط أولية تسمح بالتواصل خصوصا بين المختلفين بشدة أو المتوافقين بشدة. الاختلاف الحاد يؤسس لقطيعة تسعى الأخلاق الإجرائية لإنهائها وتأسيس علاقة تواصل. كذلك التوافق الحاد يؤسس لتماهٍ يؤدي كذلك لقطيعة تسعى الأخلاق الإجرائية لإنهائها من أجل علاقة تواصل تُبقي وجود الطرفين دون ذوبان أحدهما في الآخر. إذن فالعلاقات الإجرائية هنا هدفها فتح إمكان اللقاء بين أطراف العملية النقدية. هذا اللقاء يفترض أن تحضر فيه أطراف العلاقة النقدية بأوضح صورة ممكنة. الناقد يفترض أن يحضر بوصفه كائنا فاعلا حرا على استعداد لممارسة حقه في التفكير والمساءلة والحوار وإطلاق الأحكام كما يحضر المنقود في أوضح صوره أيضا باعتباره طرفا فاعلا كذلك في العلاقة النقدية له الحق أن يقول لا أن يقال بالنيابة عنه. القارئ كذلك يجب أن يحضر في العلاقة باعتباره طرفا في العلاقة له الحق في أن يقدم له مشهد نقدي منصف يحترم عقله وأخلاقه.
العلاقات الأخلاقية الإجرائية تنطلق من الوعي بأن لكل ناقد انحيازاته الفكرية والثقافية السابقة والمؤثرة في عمله النقدي. لذا فهي تسعى لأن توفر الشروط الضرورية لكي لا تحجب هذه الانحيازات إمكان النقد من خلال قطع العلاقة بين الناقد والمنقود والمجتمع المعرفي. بهذا المعنى فإن هذه الالتزامات الأخلاقية هي في جوهرها نقد ذاتي تتم من خلاله مراجعة الناقد لنفسه قبل مراجعته للآخرين. هذه العلاقات الإجرائية تضع الناقد أمام مهمة ومسؤولية قد لا تتوافق مع اندفاعاته الأيديولوجية والعقدية، فهي باختصار تطلب منه أن يرى منقوده أي أن يقرأه باحترام. أو بعبارة أخرى هذه الأخلاق الإجرائية تطلب من الناقد أن يغالب كل حماسته للقول بأن ينصت أولا. الإنصات عمل يتضمن احترام وأدب وثقة في الذات وفي الآخر. الإنصات هو بوابة التصوّر والفهم الذي هو بالتالي بوابة الحكم. الحكم السابق على الإنصات لن يتجاوز حدود التفريغ النفسي والانتقام والاكتفاء بالمعارك الهوائية. النقد في أساسه مواجهة مع الذات قبل الآخر، مواجهة لأخلاقها وقدرتها على الإنصاف والعدل وهذه بالتأكيد هي المهمة الأصعب في كل هذا المشوار.