إن المشكلة الأساسية التي ما زالت تعاني منها الثقافة الإسلامية تتمثل بطغيان الأيديولوجيات الدينية والسياسية التي حوّلت القيم الأخلاقية إلى قيم متسلطة لا تخدم 'الإنسان' بقدر خدمتها لفئة أو تيار لديه توجه ديني أو سياسي محدد

تستمد الأنسنة فكرها من الفلسفة؛ ولذلك يمكن اعتبار الفلسفة مصدراً للاتجاهات الأنسنية، بدءاً من الفلسفة اليونانية القديمة مروراً بعصر الفلسفة العربية الإسلامية، ثم الفلسفة في عصري النهضة والتنوير في أوروبا، وانتهاءً بالفلسفة في العصر الحديث، حيث كانت في كل هذه العصور محاولات عقلانية لأنسنة الثقافة البشرية من خلال ربط الإنسان بالبحث عن المعرفة، باعتبار أن العقل هو المعيار الذي يحدد مدى الحاجة للأفكار والقيم.
ولكن برزت الحاجة للفلسفة على اعتبار أنه لا يمكن تحقيق أهداف الأنسنة من دون الاهتمام بالفلسفة، لأنها تعد حاجة اجتماعية ماسّة؛ فهي منهج عقلي منطقي لاستنطاق الأفكار، ومجال خصب للإبداع الفكري القائم على التأمل والتساؤل والنقد، وتستمد الفلسفة قيمتها بأنها تبحث في المشترك الإنساني عن إجابات للأسئلة الكبرى التي تقلقه، وكل ما يتعلق بالكون والإنسان والوجود.
ومن خصائص الفكر الفلسفي قدرته على مساءلة (البديهيات)، فعقل الإنسان قادر على استنطاق نسبية الحقيقة وقياس مدى مواءمتها للحاجة الإنسانية؛ ولهذا تبلورت فكرة الأنسنة من خلال الفلسفة، كتوجه فكري حر ومنفتح ومتوازن يمكن به تحقيق التواصل والتعايش.
ومن هذا المنطلق ركّز الفلاسفة على الأنسنة كقضية إنسانية يجب التركيز عليها لتحقيقها على أرض الواقع، ولكن إذا كانت الأنسنة قد تحققت في العالم الغربي باعتبار الإنسان هو الأعلى والأهم قيمة، كما تنصّ على ذلك القوانين والدساتير، فإن الإنسان في الثقافة العربية والإسلامية ما زال رخيصاً، يمكن أن اختلافه ثمن لإزهاق روحه أو نفيه وتدميره، رغم أن الثقافة العربية شهدت مظاهر كثيرة للأنسنة، وهذه مفارقة.
إن المشكلة الأساسية التي ما زالت تعاني منها هذه الثقافة تتمثل بطغيان الأيديولوجيات الدينية والسياسية التي حوّلت القيم الأخلاقية إلى قيم متسلطة لا تخدم الإنسان بقدر خدمتها لفئة أو تيار لديه توجه ديني أو سياسي محدد، ولذلك رأينا سيطرة هذه الأيديولوجيا على مفاصل الثقافة والمجتمع الإسلامي، فجهود الفلاسفة والأدباء وعلماء الطبيعة المسلمين في المجال الأنسُني لم تؤثر بشكل عميق في الإنسان آنذاك؛ نتيجة وجود عقليات تحتقر العقل وترفض إعماله، وبالتالي ظهرت الأفكار المضادة للأنسنة، فحصلت مواقف إقصائية بحق الفلاسفة، ومن جهة أخرى هناك مواقف أيديولوجية سياسية أوقعت الأنسنة بين الأيديولوجيات التي تراق من أجلها دماء الإنسان، بينما أخذت الأنسنة طريقها إلى أوروبا عبر الأندلس ثم إيطاليا، في فترة بدايات عصور الانحطاط الإسلامي.
أما في العصر الحديث فقد تشكلت بذور للاتجاهات الأنسنية مرة أخرى، بعد الانفتاح الثقافي العالمي الذي نعيشه منذ أكثر من عقدين، حتى وإن لم يتخذ هذا الاتجاه مسمى الأنسُني تحديداً، إلا أن النزوع إلى الطروحات الفلسفية بدا واضحاً وفاعلاً ومحركاً في الثقافة العربية بشكل عام وثقافتنا المحلية السعودية على وجه الخصوص.
ولهذا أقول إنه من الممكن وجود اتجاهات فكرية مختلفة في الرؤى ولكنها رغم اختلافها يمكن أن تلتقي عند الإنسان كقيمة ثقافية يجب الإعلاء من شأنها، على الرغم من أن كل تيار أو توجه يمكن أن يدعي الأفضلية من هذه الناحية، إلا أن ما يبقى على المحك هو مدى قدرة هذه الأفكار على التأثير إيجابياً في عملية تطور المجتمع ونهوض الإنسان، وبالتالي يتحقق التعايش رغم الاختلاف، ولا سيما علاقتنا ببعضنا من جهة وعلاقاتنا بالعالم الخارجي من جهة أخرى.
غير أن تحقيق الأنسنة على مستوى الواقع يحتاج إيماناً بحقه في أن يختلف ويعيش كريماً، ولكن من دون الفلسفة لا يتحقق الفكر الأنسني ولا ينتشر وينمو، ولذلك فإن إدماج الفلسفة في مؤسسات التربية عامل مهم للأنسنة؛ حيث لا يمكن التخلي عن فلسفة التربية إذا أردنا إعداد جيل يعرف معنى حقوق الإنسان، ويستطيع صنع فرص للتعايش والتسامح الإنساني في ظل مخاطر رفض الاختلاف، وهنا يوجد نوع من العلاج المنطقي لأعتى الأمراض البشرية المتمثلة بالانغلاق والتعصب والعنصرية من خلال طريق الأنسنة، وعلينا التفكير بكيفية عبور هذا الطريق، إن لم تكن لدينا الشجاعة لاقتحامه وعبوره!