الناقد الذي يسعى لطمس منقوده، من خلال تشويه أفكاره، وعرضها بشكل غير منصف، يمارس مهمة أخرى غير النقد وهي مهمة قطع العلاقة بين القارئ والمنقود، أي السعي لجعل إمكانية التواصل بين القارئ والمنقود أكثر صعوبة
كان هدف المقال الماضي، تقديم محاججة على دعوى أن الأخلاق ضرورية لأي عمل نقدي. بمعنى أن الالتزام بمنظومة ما (لم نحدد طبيعتها بعد) ضروري لإقامة العلاقة النقدية مع طرف آخر سواء كان هذا الطرف نصا أو فكرة أو شخصا. كانت الفكرة الأساسية خلف المحاججة هي تصوّر النقد كعلاقة تربط أطراف مختلفة من ناقد ومنقود وباقي أطراف المجتمع المعرفي. هذه العلاقة يمكن أن تأخذ أشكالا مختلفة من بينها العلاقة النقدية التي تتطلب أن يرى كل طرف الطرف الآخر ويدرك وجوده لحدود الدرجة التي تسمح بإمكان إقامة علاقة النقد.
الأخلاق هي التي تنهض بهذا الدور؛ أي أنها مجموعة الالتزامات التي تؤسس إمكانية رؤية الناقد لمنقوده بما يكفي لأن ينقده. هذا كان سؤال الإمكان أي سؤال هل يمكن وجود نقد بلا أخلاق؟
جوابنا سلبي، وربما اتفق معنا كثر، وربما عدوا كل هذا من البديهيات. الآن جاء دور سؤال الوجود، أي السؤال المشغول بطبيعة الأخلاق الضرورية لإقامة العلاقة النقدية. المقال قبل الماضي أيضا حمل قلقا مشروعا من شكل من أشكال العلاقة الممكنة بين الأخلاق والنقد. أي العلاقة التي تهيمن فيها منظومة أخلاقية معينة على الفعل النقدي وتحوله إلى مجرد محاكمات أخلاقية. بسبب هذا القلق اقترحت التفريق بين نوعين من أنواع العلاقات بين الأخلاق والنقد. العلاقة الأولى هي العلاقة المضمونية التي تحدد فيها الأخلاق مضمون النقد. أي العلاقة التي تجعل من الناقد مجرد مطبّق لمرجعياته الأخلاقية على موضوعاته النقدية. العلاقة الثانية هي العلاقة الإجرائية، وهي علاقة محدودة هدفها إقامة علاقة عادلة بين أطراف النقد. هذه العلاقة يفترض أولا، ألا تمتد لتحتوي تحديدا مسبقا لمضمون النقد. هذه العلاقة تسعى ثانيا، لأن يبقى الناقد على أعلى مستوى ممكن من الحرية في عمله النقدي بدون أن تؤدي هذه الحرية إلى إخفاء منقوده أو إلى تحويله إلى شخصية لا تمت لصاحبها بصلة. ثالثا، هذه العلاقة الإجرائية تسعى إلى عدم استخدام غطاء النقد لتحقيق أغراض غير نقدية كتشويه صورة المنقود أو إثارة العنف تجاهه أو السعي لحجب حقوقه الأساسية وأولها حقه في التعبير. أي أنها هذه العلاقة تسعى لحماية النقد من التحول إلى تصفية حسابات أو عنف على هوية القائل لا ما يقول. رابعا، العلاقة الإجرائية تراهن على دعوى أنها مناسبة للنقاد بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية. بمعنى أنها لا تشترط من البداية الاتفاق على منظومة أخلاقية معينة بقدر ما تراهن على مبادئ إجرائية يقبل بها نقاد من خلفيات أخلاقية مختلفة. بمعنى أنها إجراءات تراهن على مناسبتها للمتدين وغير المتدين، للأخلاق المثالية وللأخلاق النفعية، للأخلاق الفردية والأخلاق الجماعية وغيرها من المرجعيات المختلفة.
السمة الأولى تعني أن هذه الالتزامات الأخلاقية لا تحدد للناقد ما يقول، ولكنها تحدد له حدا أدنى من الاعتبارات التي تجعل ما يقوله نقدا. يمكن توضيح هذه الفكرة بإظهار التشابه بينها وبين الحجاج المنطقي. في كل برهنة عقلية هناك صورة ومضمون أو إجراء ومحتوى. الإجراء هو عملية الانتقال من المقدمة إلى النتيجة أو من السبب إلى النتيجة. أي أنها القواعد التي تضبط عملية التفكير. في المقابل المحتوى هو المضمون الذي يُستخدم داخل هذه الإجراءات. من أشهر الصور أو الإجراءات في المنطق الإجراء الاستنباطي والإجراء الاستقرائي. الاستنباط يعني الانتقال من الكليات للجزئيات بينما يتحرك الاستقراء بالاتجاه المعاكس. هذه الإجراءات لا تحدد مضمون النتيجة التي يمكن أن يصل لها المفكر ولكنها تحدد له التفكير المنطقي من غيره. الأخلاق الإجرائية تسعى لتحقيق هدف مشابه لهذه المهمة وهذا ما يؤدي إلى السمة الثانية وهي سمة الحرية.
الأخلاق الإجرائية تسعى لتوفير أعلى درجة ممكنة من الحرية للنقاد تحت اشتراط واحد متعلق بحرية المنقود وحرية القارئ. من السمة الأولى علمنا أن هذه الإجراءات لا تسعى لتحديد مضمون النقد ولكنها تسعى للحفاظ على حرية أطراف النقد جميعا، مما يعني استمرار العمل النقدي. الإجراء دائما يسعى لأن يكون مفتوحا دائما للاستعمال ولذا فإن عملية النقد التي تسعى لإقفال النقد تتعارض مع هذا الهدف. من أعمال إعاقة النقد محاولة طمس المنقود أو تشويه أفكاره أو إخفاء أطروحاته، بتقديمها بصورة هزيلة وغير منصفة. بهذا العمل فإن الناقد يسعى لطمس وجود منقوده وبالتالي القضاء على إمكانية استمرار هذه العلاقة. هذا الاشتراط يؤدي للسمة الثالثة التي تسعى للحفاظ على عدم انزلاق النقد لشيء آخر. الناقد الذي يسعى لطمس منقوده من خلال تشويه أفكاره وعرضها بشكل غير منصف، يقوم بمهمة أخرى غير النقد وهي مهمة قطع العلاقة بين القارئ والمنقود. أي السعي لجعل إمكانية التواصل بين القارئ والمنقود أكثر صعوبة وأقل احتمالا. بمعنى أنها مهمة للقضاء على الطرف الآخر في عملية النقد. العلاقات الأخلاقية الإجرائية تسعى في المقابل إلى أن يكون النقد خطوة في استمرار العلاقة النقدية لا نهايتها. هذا أيضا يدفع باتجاه السمة الرابعة وهي أن المنظومة الأخلاقية الإجرائية متأسسة على إدراك التعدد والتنوع داخل المرجعيات الأخلاقية والنقدية. بمعنى أنها ناتجة عن إدراك واقع الاختلاف الأخلاقي بين الفاعلين في الساحة النقدية وكل ما تسعى له هو أن لا يكون هذا الاختلاف سببا للقطيعة بقدر ما هو سبب للتواصل. بمعنى أن هذه الإجراءات تدفع باتجاه أي شكل من أشكال التواصل الذي يكفل للجميع الحضور بدون أن يطغى طرف على طرف أو أن يترتب على وجود طرف اختفاء طرف آخر. السلوك الذي يتعارض مع هذا الإجراء هو السلوك الذي يسعى لإبعاد أحد الأطراف من ساحة التواصل والقضاء على فرصته في المشاركة.
كانت هذه إطلالة سريعة على طبيعة العلاقة الإجرائية بين الأخلاق والنقد لعلها تفتح المجال لحوار أوسع حولها في المقالات القادمة.