الأمر لم يتعلق بتنفيذ فكرة بل تجاوز ذلك إلى الاستفادة من أبحاث ودراسات الجامعة، كونها مبنية على دراسة علمية منهجية، وليس مجرد رؤى نظرية، تظل حبيسة أدراج المكاتب كما هي الحال في منطقتنا العربية
بدأ الأمر عام 1999 بمجرد فكرة جامحة وردت ضمن أطروحة ماجستير للمعماري ريان جرافيل، الذي كان يدرس في معهد جورجيا التقني، لتتحول هذه الفكرة الخيالية بعد سنوات قليلة إلى أكبر مشروع إعادة تطوير مستدام لتجمعات حضرّية ليس في ولاية جورجيا فقط، بل حتى عبر الولايات المتحدة الأميركية كلها!
كانت مدينة أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأميركية تعاني من معدل جريمة مرتفع، وتراجع مستمر في تنوعها الاقتصادي، بالذات في مشاريع الأعمال الصغيرة، ترافق ذلك مع توّسع أفقي هائل للمدينة، مما جعل مسؤولي المدينة يقبعون تحت ضغط مجتمعي لا يهدأ، خصوصاً مسؤولي النقل العام، ورغم كل هذه المشاكل لم يستطع أحد ما تقديم حلٍّ متكامل يضع في الاعتبار كل هذه العوامل المتداخلة.
في تلك الأثناء كان ريان يدرس الماجستير، وبدأ يطور فكرة جديدة تعتمد على الاستفادة من خط السكة الحديدية القديمة المهجورة - التي أنشئت خلال سنوات تأسيس المدينة - وما بين خطوط النقل الحالية، وذلك بإعادة تأهيلها لتكون طريق مشاة ضخما، يتكون من مسارات متعددة الاستخدامات، للمشي وركوب الدراجات، والقطارات الخفيفة، مع مساحات خضراء واسعة، وربطه بالمتنزهات القائمة في أطراف ووسط المدينة، بالإضافة إلى تشجيع الأعمال الصغيرة لأبناء المدينة على جنبات الممشى. فكان أن خرجت فكرة بعث طريق مشاة يقطع المدينة في وسطها وعلى شكل حزامٍ يطوّقها! كانت فكرة جامحة لم تنل في بداياتها سوى تشجيع مشرفه العلمي، كونها ذات تكلفة هائلة، والأهم من ذلك أنها تحتاج إلى جهد كبير، وتتقاطع مع مصالح وأملاك متعددة.
لكن ريان تشجع وقام بمساعدة صديقين مخلصين بتلخيص الفكرة وإرسالها إلى 24 شخصية مؤثرة في المدينة، ولكن للأسف دون نتيجة إيجابية، وحدها كاثي وولارد استجابت، وكانت للتو تولت رئاسة لجنة النقل بمجلس المدينة بالإضافة لتمثيلها المنطقة السادسة بالمجلس، لكنها واجهت رفض وعدم اهتمام غالبية الأعضاء، فلم تستطع الحصول على الموافقة الرسمية، ولكن الانتخابات التالية جاءت بكاثي رئيسة لمجلس المدينة، مما مكّنها من تحويل حلم ريان إلى حقيقة على أرض الواقع، فعملت هي وفريقها على جمع 23 مليون دولار كتمويل أولي لمشروع الطريق الحزام أو BeltLine، ثم العمل على تصميم المخطط العام، ودمجه بالواقع المفترض للأحياء التي يمر بها، وتوعية المجتمع بأهمية المشروع ودوره في إعادة الحياة إلى أجزاء المدينة المقطّعة والبعيدة عن بعضها البعض، بالإضافة إلى إشراك مجتمع الأعمال في رؤية وأهداف ومستقبل المشروع.
ورغم أن التكلفة مرتفعة لتخطيط وإنشاء هذا الطريق الضخم، ووجود أصوات كثيرة ترى أن المشروع بلا فائدة تذكر وأنه مجرد هدر لأموال دافعي الضرائب؛ إلا أن مجلس المدينة استطاع توفير المبالغ عبر وسائل عديدة؛ أهمها إضافة أجزاء طفيفة من ميزانية المشروع على ميزانية أي مشروع تقوم بتنفيذه بلدية المدينة! كونه في النهاية يمر بكافة أجزائها، وكذلك استقبال تبرعات أبناء المدينة من الأثرياء عبر جمعية غير ربحية تم إنشاؤها بغرض زيادة إسهام المجتمع المحلي في كافة مراحل الإنشاء ثم التشغيل والصيانة، ثم كانت الخطوة الأهم وهي العمل على تشجيع الاستثمار في حمى هذا الممشى الضخم، فكان أن جمّدت المدينة ضرائب الاستثمار في المناطق الملاصقة للطريق منذ عام 2005، مما أسهم في جذب استثمارات إضافية للمدنية، وبرفع تدريجي لأسعار الأراضي كذلك، مما عاد بالنفع المباشر وغير المباشر لسكان المدينة. ومع زيادة الوعي بأهمية الفكرة وأثرها، تضخمت المساحة التي من المفترض أن يغطيها المشروع، حيث وصلت إلى 53 كيلومتراً مربعاً، مع إعادة تأهيل 13 متنزها عاما، بتكلفة إجمالية تتجاوز ملياري دولار، يساندها في ذلك الدراسات التسويقية التي تشير إلى أن أي دولار واحد ينفق في المشروع سوف يعود بثلاثة دولارات على المدينة خلال مدة قصيرة!
حتى الآن افتتحت ثلاثة أجزاء من هذا الممشى الضخم، جزءان في المنطقة الغربية من المدينة موصولان بمتنزهين اثنين، وحوالي 4 كيلومترات في الجزء الشرقي من المدينة، مع تأهيل لأربعة متنزهات أخرى، هذه الأجزاء ساعدت على تحفيز التنمية الاقتصادية بالمنطقة، فعلى سبيل المثال أعيد افتتاح مركز تجاري سبق أن أقفل قبل سنوات، يحتوي على 250 متجراً ومطعماً ومكتباً، كما دُشنت مشاريع صغيرة متنوعة لأبناء المنطقة على طرفي الممشى، كمطاعم الأطباق التقليدية والمخابر ومتاجر الحرف اليدوية والمشغولات الزجاجية وغيرها، بل إن بعض الشركات بدأت بالعودة إلى أتلانتا كمركز رئيس لأعمالها، كما فعلت شركة أيسبوكس، التي أعادت تأهيل مصنع ثلج مهجور ليكون مركز أعمالها في المنطقة.
في العام الماضي أفصحت بلدية المدينة عن الخطة الاستراتيجية لممشى الحزام، وذلك حتى عام 2030، مما يعني أن المشروع تحوّل من مجرد فكرة طالب ماجستير مغمور؛ إلى مشروع رؤية جماعية للمدينة وأهلها. والذي كان تجسيداً لرؤية معمارية مبتكرة، استطاعت دمج عناصر البيئة المحيطة بالممشى، وجعله كما لو كانت متنفساً طبيعياً للمدينة بسكانها وشوارعها واقتصادها المحلي في آن واحد، بل وصل الأمر إلى تحويل بعض زوايا الممشى إلى معرض فني مفتوح، تعرض فيها منحوتات والأعمال الفنية لشباب وفتيات المدينة أمام الجمهور دون حواجز. ذلك أن المشروع ومع مرور الزمن أضحى رئة جديدة للمدينة، فمن مارثونات دورية إلى برامج تطوعية، إلى لقاءات مفتوحة مع الأهالي لتشجيعهم على الانخراط في المشروع والاستفادة منه اجتماعياً واقتصادياً، وهو ما لمسته شخصياً العام الماضي، حينما زرت مع والدي الجزء الغربي من الممشى، وأحسست وكأنما نحن في حديقة وارفة لا تنتهي، رغم أن البنيان يحيط بنا من كل جانب!
الشيء الرائع هنا، هو أن الأمر لم يتعلق فقط بتنفيذ فكرة أحد أبناء المدينة فقط بل تجاوز ذلك إلى الاستفادة الحقيقية من أبحاث ودراسات الجامعة، وتحويلها إلى واقع تطبيقي ناجح، كونها مبنية على دراسة علمية منهجية، وليس مجرد رؤى نظرية، تظّل حبيسة أدراج المكاتب كما هي الحال في منطقتنا العربية، فكم من فكرة رائعة لم تجد طريقها للتنفيذ لمجرد عدم اقتناع مسؤول ما بها، وبقيت مجرد فكرة عالقة في عقل مبدع، يفقد حماسه وإبداعه يوماً بعد يوم.