المسألة الذهنية المتعلقة بإدارة التلفزيون أشبه بالمسبحة التي يفرطها التشريح، فإن وقفنا عند استفهامات، برزت أخرى، وذلك يضعنا تاليا أمام نظام التعاون، وهو الذي تقدم فيه رواتب قليلة، وللأسف فإن كثيرا من الموظفين متعاونون ورواتبهم زهيدة

في مقال سابق، تناولت واقع الأداء الإداري والتنظيمي لهيئة الإذاعة والتلفزيون التي كان يفترض بها أن تعمل على تطوير هذا المرفق الحيوي، ولكنها لم ترتق إلى الطموحات الوطنية والاجتماعية لتشغيل قنوات تلفزيونية مواكبة ومنافسة في أدائها، ومن واقع التجاوب المقدر مع ما تم طرحه، رغم يقيني بأن كثيرين لديهم ملاحظات وأفكار سلبية مبررة وواقعية عن أداء التلفزيون والارتباك الإداري والإنتاجي فيه، لا تزال هناك ضرورة لاستكمال أوجه القصور في الأداء وهو عيب إداري بامتياز يفرز كثيرا من السلبيات التي ربما لم يسعها المقال الفائت، ما يملي الاستكمال في تشريح التواضع الإعلامي والمهني في هذا الجهاز، الذي يهمنا جميعا أن يكون قويا وفاعلا ولاعبا مؤثرا في كل ما يتعلق بالمجريات التنموية الذاتية والاجتماعية والوطنية.
وفي تقديري، فإن الرؤية لأداء التلفزيون، لا تستكمل دون استعراض متعلقات الأجور والمتعاونين والميزانية، ومن واقع تغريدات في موقع تويتر يؤكد كثيرون خلالها ويعانون ويشكون من تدني الأجور، ولذلك لا نستغرب توظيف كثير من المذيعات غير سعوديات كمتعاونات لأن أجورهن أقل رغم الميزانية الضخمة التي تتمتع بها الهيئة، ولا تنجح في استيعاب وتأهيل مذيعين ومذيعات سعوديين.
تلك المشكلة تلتقي مع مشكلة أخرى في ذات إطار الأجور المتدنية وهي التي تتعلق برواتب المتقاعدين، وذلك أمر يكفي فيه الإشارة إلى ما ذهب إليه معد ومقدم برامج بالتلفزيون قدّم كثيرا له ولوطنه، ويعد أحد الكفاءات والخبرات التي بذلت جهدا مميزا للارتقاء بالعمل التلفزيوني، من أنه ورغم تدني معاشاتهم لا يأخذونها في مواعيدها وهي لم تصرف منذ شهرين ولم يسأل عن وضعهم أحد، وذلك يضعنا مع الميزانية الضخمة للهيئة أمام كثير من علامات الاستفهام التي تفسر الانهيارات البنيوية في أداء التلفزيون، ومحل صدمة حول ما يحدث للأجيال التلفزيونية التي لا ينبغي وضعها في الأرشيف أسوة بالمادة الإنتاجية.
والمسألة الذهنية فيما يتعلق بإدارة التلفزيون أشبه بالمسبحة التي يفرطها التشريح، فإن وقفنا عند استفهامات بعينها، تبرز أخرى وهكذا، وذلك يضعنا تاليا أمام نظام التعاون في التلفزيون، وهو النظام الذي تم إلغاؤه بالنسبة للموظفين الرسميين، وتقدم فيه رواتب قليلة جدا لا تتناسب مع التلفزيون كقيمة إعلامية وجهاز يتوقع ويرجى منه كثير، وللأسف فإن كثيرا من الموظفين متعاونون ورواتبهم زهيدة، وبالتالي يمكن أن نفتح الخيال لتصور الحصاد.. والخلاصة برامج دون مستوى طموح المشاهدين، وحين يعتمد التلفزيون على دعامات من المتعاونين لا تحصل على رواتب مجزية فإن بعضهم قد يتعامل معه كخيار صفر لا بديل له عنه، وبالتالي لا يقدم شيئا مميزا لأنه لا يحصل على ما يميزه أو يساعده في تطوير أدواته المهنية، وهكذا كما يكون الغرس يأتي الحصاد.
وتلك المسألة المالية تنتهي ذروتها المنطقية عند الميزانية، وهي ضخمة قياسا بالطموح إلى إنتاج برامجي متميز يليق بالمملكة، وأيضا مقارنة بغيرها من التلفزيونات والفضائيات، ففي ميزانية عام 2014، كانت إيرادات ومصروفات هيئة الإذاعة والتلفزيون مليارا وثمانمئة وسبعين مليونا وأربعمئة وتسعين ألف ريال، وإيرادات ومصروفات الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع أربعة وثلاثين مليونا وخمسمئة ألف ريال، وتصل ميزانية القناة الأولى البرامجية، لوحدها، إلى 54 مليون ريال.
ولكي تتضح الصورة الإجمالية نلقي نظرة في أحشاء ميزانيات التلفزيونات الأخرى، فعلى المستوى الخليجي ربما كانت ميزانية التلفزيون السعودي هي الأكبر، فمجموعة mbc والعربية تحقق مليار ريال إيرادات سنوية وأرباحها السنوية تعادل 25% من هذا المبلغ، أما عربيا وعلى سبيل الاستشهاد، فإن الموازنة العامة للتلفزيون المصري تبلغ نحو 4 مليارات جنيه، وموازنة التلفزيون الأردني تصل إلى 19.5 مليون دينار سنويا، وتصل ميزانية التلفزيون الجزائري إلى 40 مليون دولار، وهذه الميزانيات يمكن ببساطة أن تبتلعها ميزانية التلفزيون السعودي، ولكن كيف هو الإنتاج والمردود؟.
الإجابة كالتالي: إنتاج متواضع، أعمال هشة، مزيد من جمود السلم الوظيفي، تجميد بند الأجور وإبقاؤه دون مستويات المنافسة والمعقولية، ديكورات لا تتغير وتعكس عدم تغير النمط الإداري السائد، والأدهى والأمر أنه تم التبشير بانطلاقة جديدة أصبحت قديمة، ولم يطرأ عليها أي تجديد في الشكل والمضمون، وعليه لم نحصل على أي هوية جديدة تم الزعم بإطلاقها، وبصورة موضوعية لا أتوقع أي تغيير ما لم يحدث تغيير شامل في بنية النظام والتنظيم الإداري، وسنبقى محلك سر نردد يا ليل ما أطولك.