الإنسان اليوم بات أقل قوة وتركيزاً بموازاة هذه التقنية، ووضحت قدراته الدفاعية الضعيفة في مواجهة هذا النوع من التحديات، وضعف مناعته أمام جحافل المتعة التي تقدمها له التقنية الحديثة، حتى أصبحت تمسك بعجلة قيادة المسيرة الحياتية للإنسان
تقتنص التكنولوجيا منذ ظهورها بكل أشكالها من عمر البشرية وقتاً كبيراً، يكاد يطغى بل إنه يطغى بالفعل على كل ما سبق من المستجدات عبر التاريخ البشري على الأرض، ويذهب بحياة الإنسان إلى مواقع بعيدة عن النمط الاجتماعي الذي اعتاد عليه، وبشكل أدق تفاصيل لغته التواصلية مع كل ما ومن حوله، لتأتي التقنية وتستولي على أصغر وأقصر لحظات الفعل الاجتماعي، وهذا في الواقع أمر يدعو للقلق، فالإنسان اليوم بات أقل قوة وتركيزاً بموازاة هذه التقنية، ووضحت قدراته الدفاعية الضعيفة في مواجهة هذا النوع من التحديات، وضعف مناعته أمام جحافل المتعة التي تقدمها له التقنية الحديثة، وهي التي منذ أول ظهور لها تمسك بعجلة قيادة المسيرة الحياتية للإنسان.
والتقنية هنا ليست مصطلحاً جديداً يخص المستحدث في العصر الحالي الحديث، بل هو مصطلح عميق في جذور التاريخ، فالوصول الأول للإنسان إليه كمكتشف قد أعطاه ترميزه ومعناه الفكري واللغوي لاحقاً، وشكل أسساً جديدة للتعامل مع طريقة تفكير العقل، لكنه وعلى الرغم من تفاوته وتباينه في الظهور بين الفترات الزمنية، يعيش اليوم أزهى فترات حضوره وتأثيره، على البعد الإنساني خاصة وحياة كوكب الأرض ومجرة درب التبانة بأكملها وما جاورها أيضاً.
وإذا دعونا حضارة اليوم بالتقنية فذلك يعود إلى دور التقنية التحويلي والآخذ بالهيمنة، وجذور هذه الحضارة غاية في العمق، فهي تعود إلى فجر التاريخ حين نشأت أولى النتاجات التقنية: الأدوات والسكن إلخ، هناك نظريات لا تخلو من المصداقية بأن حضارات تقنية كانت موجودة في حقب بالغة القدم، إلا أن هذه القضية ليست موضوعنا الآن، فهذه أرست أسس التكنولوجيات الأولى، أي سبل النشاط، حين تكونت في عقل الإنسان النماذج والتصورات لنتاجات التكنيك واستخداماتها.
وغرضنا هنا ليس القيام بتدوين آخر لتاريخ التكنيك بل مجرد متابعة سريعة لتطور الفكر المكرس له، والذي صار يندرج اليوم في فرع جديد للفلسفة أسموه بفلسفة التقنية. ومعلوم أن هذه وقضاياها لم تكن المادة الرئيسة لعمل الفلاسفة. فحينها كان التكرس فيها لمسائل الميتافيزيقا والأخلاق والمعرفة إلخ...، وهو أمر مفهوم بأن هناك روادا بين الفلاسفة تناولوا إشكالية التقنية. كما أن مصطلح التكنيك كان يتناوله الفلاسفة في شتى الصور..، وإن الفكرة الشائعة هي أن مصدر التأملات المعاصرة في ظاهرة التقنية هو فلسفة أرسطو طاليس، الذي كان أول فيلسوف تفرغ لمشاكل التقنية.
وتحدد الفهم الأرسطو طاليسي للتكنيك في التفرقة بين المعرفة النظرية epistem والعملية technikos، وفي تقسيمه للعلوم يميز ثلاث مجموعات: النظرية والعملية والإنتاجية. مهمة الأولى السعي إلى الحقيقة كشيء مطلق وضروري، والتعرف اللا نفعي. فالحقيقة المكتشفة بصورة ما، لا تعتمد على الرأي الذاتي، ولذلك تكون مادة العلوم النظرية ما هو ضروري، أما تلك العملية فنشاطها محصور في مجالات كالأخلاق والاقتصاد والطب.
كما يفرق هذا الفيلسوف هنا، بين العمل والخلق. وكان على المجموعة الثالثة أن تتفرغ لأداء الأعمال الخارجية بالنسبة للصانع، وأساسها يكون العقل أو العملية أو القوة، ويجد أرسطو طاليس الفوارق بين النشاط والخلق، إلا أن ما يجمع بينهما هو حاجة الاثنين إلى الأدوات.
هذا التوصيف السريع المقتبس من كتاب الإنسان والتكنيك لعدنان المبارك - وهو بالمناسبة كتاب رائع أنصح كثيراً بقراءته - يلخص عمق جذور التقنية الميكانيكي والفكري، وحجم سطوة التقنية حتى على المسمى الزمني لهذه الفترة التاريخية، والذي يُعرف بزمن (التقنية)، وهو مسمى أجزم بتلاقيه الفعلي مع المزاولة اليومية للإنسان الحالي، واختطافه اجتماعياً بشكل أكثر من المبالغ فيه، وللأسف بمباركة من الإنسان نفسه، الذي يعيش أكبر غفلة في تاريخه، ستؤثر حتماً في تركيبته وبنيته البيولوجية على امتداد الزمن القادم، كما يعتقد العلماء في الوقت الحاضر أن وجه الإنسان سيتطور خلال المئة ألف عام القادمة، ويصبح بشكل مختلف، خاصة العينين، إذ ستكبر تدريجياً، ومن المتوقع أن تكون جباهنا أعرض ووجوهنا مسطحة بعض الشيء، وعيوننا أكبر وأكثر بروزاً، نتيجة استخدامنا للتكنولوجيا وتقنيتها، مما سيؤدي أيضاً إلى نمو عقولنا بصورة أكبر، وهذا ما توقعه العالم الأميركي ألان كوان أستاذ الجينيومات الحسابية بجامعة واشنطن، فاستعدوا إذن وأخبروا أجيالنا القادمة أننا كنا السبب وراء أشكالهم وصورهم العجيبة تلك.