نريد مناهج تعلم الطلاب التفكير، والبحث عن المعلومة، بدل تلقينهم المعلومات، ومناهج تقدم لهم الأدوات العملية وتجعلهم جاهزين للمنافسة والتميز، ومناهج تزرع في الطلبة أنهم أبناء وطن واحد

التغيير يبدأ من هنا.. بهذه العبارة اختتمت مديرة مدرسة أميركية شهيرة كلمتها بمناسبة حفل تخرج طلبة المدرسة الأسبوع الماضي. كانت المديرة تروي قصتها مع السياسة حين نذرت حياتها لمحاربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عندما كانت طالبة في الجامعة، لدرجة أن قريتها الصغيرة صارت جزءا من تاريخ حركة النضال التي قادها مانديلا، لكن هذه الطالبة غيرت كل حياتها لاحقا، ودرست البكالوريوس مرة أخرى في التعليم الذي أعطته حياتها العلمية والعملية، لأنها أدركت أن التعليم وليس النشاط السياسي هو ما يخلق التغيير ويصنع الأمم العظيمة.
ربما تشرح هذه القصة أصل المشكلة في العالم العربي. العالم العربي يعاني من التخلف العميق الذي يؤثر عليه بدرجات متفاوتة، ويحرمه هذا التخلف من النهوض الشامل رغم وفرة الفرص. الحال مختلف بالنسبة للسعودية وعدد من دول الخليج، حيث كان هناك استثمار كبير وجهد ضخم عبر عدة عقود في مجال التعليم، لكن لا يمكننا بحال من الأحوال أن نقول إن التعليم وصل إلى مستوى مقبول من حيث قدرته على إعداد الأجيال الجديدة لتسهم في بناء الوطن وصناعة مستقبل أفضل وأكثر نهوضا.
ربما كانت المشكلة الجوهرية في التعليم لدينا هي عدم امتلاكه للمناهج والفلسفة التعليمية التي تصلح فعلا لبناء جيل مختلف من حيث القدرات العملية والمهنية ومن حيث القدرة على التفكير الإبداعي والنقدي.
المناهج الحالية هي مجرد كتب يحفظها الطلاب لينسوها، لا تمنحهم تلك القدرات ولا تصنع منهم شخصية جاهزة للمستقبل. هذا ليس كلامي وليس فقط مجرد ملاحظاتي الشخصية، بل هو ملخص ما كتبه المئات عن التعليم لدينا، ولكن هذه المقالات لم تأت حتى الآن بنتائج على الأرض.
من جهة أخرى، ما نحلم به ليس مجرد مثاليات، بل هي أساليب ومناهج مطبقة في أميركا وأوروبا ودول آسيا المتقدمة، والمملكة لا تقل عن هذه الدول من حيث الإمكانات، أو من حيث الرغبة على مستوى صناعة القرار، ولكن ما ينقصنا تلك الرؤية التي تمثل حلما جماعيا يقود كل الجهود التعليمية للأمام.
قبل حوالي شهر، صدر قرار خادم الحرمين الشريفين بتخصيص ميزانية 80 مليار ريال عبر خمس سنوات ضمن مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام، ضمن خطة طموحة تتناسب مع التطلعات المواكبة لقيادة الأمير خالد الفيصل للتعليم في السعودية. لم ينشر من الخطة إلا بعض الخطوط العريضة، ولكن لم يكن بينها ما يشير إلى ذلك التغيير الجذري في المناهج، الذي بدونه يبقى كل تطوير هو تطوير في البناء وليس في الجوهر. بكلمات أخرى، المباني وتطوير المعلمين والتقنية الحديثة وغيرها كلها أدوات تسهم في تقديم المادة للطلاب، ولكن إذا كانت هذه المادة هشة قديمة لا تقدم الكثير من النفع، فإن النتيجة هي لا شيء في النهاية!
كلي قناعة بأنه لا يمكن أن يكون هناك كل هذا التخطيط بدون التفكير في المناهج، ولكن ما أطالب به هنا هو اتخاذ تلك الخطوات الجريئة والجذرية التي تضرب بالمناهج الحالية وطرق تدريسها عرض الحائط، وتنطلق بمناهج جديدة مختلفة تماما. نريد مناهج تعلم الطلاب التفكير، والبحث عن المعلومة، بدل تلقينهم المعلومات، ومناهج تقدم لهم الأدوات العملية وتجعلهم جاهزين للمنافسة والتميز، بدلا من الاعتماد على التدريب لتحقيق مهارات أساسية، ومناهج تزرع في الطلبة أنهم أبناء وطن واحد، وأن الوطن هو الأرض التي استخلفنا الله عليها، وأن بناءها هو أسمى غاية للإنسان.
قبل حوالي 15 عاما بدأت بالتدريس في جامعة أميركية، وكنت أدرس مبادئ الاتصال والإعلام لطلبة المرحلة الأولى، الذين جاؤوا لتوهم من الثانوية العامة. كانت المفاجأة التي لا أنساها مع أول تمرين للخطابة أن كل الطلاب يتحدثون بمستوى مبهر من جودة الإلقاء والتعبير والثقة بالنفس. في أول تمرين، على أدوات التسويق، كان مستوى البروشورات التي أعدها الطلاب مذهلا أيضا. أدركت وقتها بشكل عملي الفرق بين تعليم يحشي رأسك بمعلومات محدودة القيمة، وتعليم يمنحك أدوات النجاح في الحياة.
تحقيق ذلك كله ليس بالأمر الصعب، وأنا في هذا السياق، أقترح أمرين أساسين:
الأول: تخفيف المركزية الموجودة في الوزارة في الرياض وإعطاء المزيد من الصلاحيات والمسؤوليات لإدارات التعليم في المناطق، وكنت قد كتبت مقالا في السابق عن أهمية ذلك في تطوير التعليم، وكيف أن كثيرا من التجارب العالمية تؤكد أن المركزية لا تسمح ببناء نظام تعليم ناجح.
الثاني: الاستفادة من الكم الهائل من الشركات والوكالات الاستشارية في مجال التعليم، والموجودة في الدول المتقدمة، حتى يمكن نقل التجربة التعليمية في الغرب (بحسناتها دون سيئاتها طبعا). هذا الانفتاح من الوزارة على هذه الشركات العالمية إذا تم بطريقة منطقية وتم فيه الاستفادة من بعض الأكاديميين في الجامعات السعودية في الإشراف على ذلك، سيكون له أثر ضخم وسريع – في رأيي- على تطوير العملية التعليمية.
نجاح التعليم يصنع جيلا عظيما، جيلا مختلفا، جيلا ينهض بوطنه، ويستطيع مواجهة التحديات، وثمانون مليارا كافية لصنع تغييرات غير مسبوقة، وتخلق الكثير من الأمل..