أين تتجمع قطرات الكلمات وأين تذهب الفكرة بعد ذلك؟ هل يمكن لكاتب الرأي أن يصنع رأياً عاماً؟ وهل يمكن لكلماته وأفكاره أن تجد صدى في مكان ما؟

في شهر أغسطس الماضي أتم كاتب هذه السطور ثلاثة أعوام من الكتابة على صفحات الوطن ولعل الوقوف مع النفس مرة كل عام ممارسة ضرورية تحتمها يفاعة سن كاتب هذه السطور وضعف تجربته، فالخلوص إلى عمق تجربة الكتابة أمر يتعدى مجرد بناء الكلمات أو نسج الأفكار، فتجربة الكتابة ليست حول ماذا نكتب أو لمن نكتب بقدر ما هي لماذا نكتب؟ فمن سبقوا بالتجربة من أساتذتنا سواء ممن تغمدهم الله بواسع رحمته أو ممن هم أحياء ـ أمد الله في أعمارهم وصحتهم ـ لا بد وأن وقفوا موقف المساءلة والاستحقاق أمام أن تكون الكتابة أكثر من مجرد مصدر للرزق والعمل.. أن تكون جمرةً متقدةً تحرق صاحبها قبل غيره.
إن السؤال الذي سيظل يطرح نفسه هو عن جدوى الكتابة، وعن جدوى أن يجد التلميذ نفسه بعد زمن في موقف أستاذه، أن تظل الكلمات حبيسة الزمن، وأن يستمر الزمن في دورته دون أن يتوقف عند تلك الكلمات، قبل اثنين وثلاثين عاماً كتب غازي القصيبي مقالة عن مشكلة التعليم في كتابه الذي ضم مجموعة من المقالات عن هذا وذاك والذي نشرته مؤسسة تهامة بتاريخ 1978، تلك المشكلة هي ذات المشكلة التي نعاني منها اليوم، وذاك الحل الذي طرحه هو ذات الحل الذي نطرحه اليوم، أي صمود لهذا الزمن أمام كل هذه الكلمات.. والأمثلة من حولنا تطول.
إن الكتابة الصحفية بما بات يحمله الإعلام من أبعاد جديدة في زمن العولمة أمر يجب التريث أمامه ذلك أن تحول الكتابة الصحفية إلى وجبة سريعة غير قابلة للاجترار جعل من الكلمات قطرات مطر ليس لها مستقر أو مستودع، ورغم سعة الانتشار تظل الكلمات عاجزة عن إيجاد دور حقيقي لها في هذا العالم الإعلامي الجديد المتسارع بتسارع الأحداث، في العام الماضي وعلى صفحات الرأي في الوطن كتبت 1820 مقالة بواقع خمس مقالات في اليوم (بين عدد الوطن 3016 بتاريخ 1/1/2009 وعدد 3380 بتاريخ 31/12/2009) والسؤال الذي يبرز.. ماذا أوجد هذا العدد الكبير من المقالات وما ترك خلفه؟ هذا والوطن صحيفة واحدة من ضمن صحف المملكة، أين تتجمع قطرات الكلمات وأين تذهب الفكرة بعد ذلك؟
هل يمكن لكاتب الرأي أن يصنع رأياً عاماً؟ وهل يمكن لكلماته وأفكاره أن تجد صدى في مكان ما؟ إن مثال الراحل غازي القصيبي يبرز بشكل صارخ أمام كاتب هذه السطور، لقد كتب في عام 1392هـ/1972م مقالة بعنوان رأي في التعليم منشورة في كتابه المشار إليه أعلاه، في هذه المقالة كتب يقول: نظامنا التعليمي الحالي لا يُعد الطالب إلا لأحد أمرين: تولي وظيفة كتابية صغيرة أو إكمال دراسته الجامعية، أي أننا لا نستطيع أن نعتمد على نظامنا التعليمي في انتاج الكهربائيين والميكانيكيين والصباغين والمساحين وبقية العمال المهرة والحاجة إلى هؤلاء في عملية التنمية أكثر بكثير من الحاجة إلى شاغلي الوظائف الكتابية الصغيرة وإلى بعض خريجي الجامعة ويضيف في موقع آخر: وإذا استمر هذا الاتجاه فسوف نجد أنفسنا في يوم قريب أمام جيش من المؤرخين والجغرافيين والأدباء والاقتصاديين في الوقت الذي لا نزال فيه بأمس الحاجة إلى السباكين والميكانيكيين والمساحين. وليس كلامي انتقاصاً للتاريخ والجغرافيا والأدب بقدر ما هو تقرير حقيقة لا مفر منها وهي أن التنمية الاقتصادية تحتاج جهود الذي يسفلتون الشوارع ويقيمون الأبنية ويمدون الأنابيب.
في مقالة أخرى في نفس الكتاب بعنوان عن فلسفة التعليم الجامعي يقول: أصبحت الشهادة هدفاً بدلاً من أن تكون وسيلة وخاتمة كفاح بدلاً من أن تكون بداية له وأصبح حامل الشهادة يتوقع أن يقضي حياته كلها يجني ثمار هذه الشهادة. ولقد آن الأوان لنزيل عن الشهادات الجامعية بريقها، وننظر إلى الشهادات الفنية والمهنية نظرة احترام وتقدير، ونكافئ حاملها مكافأة مادية لا تقل عن تلك التي يتلقاها زميله الجامعي وذلك أجدى للمجتمع من الاستمرار في تقديس الشهادة الجامعية واحتقار ما سواها.
تلك الكلمات وصفت ـ وقبل حوالي ثلاثين عاماً! ـ مشكلة التعليم في المملكة، وهي المشكلة التي لا تزال بعد حوالي ثلاثين عاماً! ـ هي ذات المشكلة، والحل الذي طرح في حينه لا يزال هو الحل السليم والرأي الذي يجب أن ننظر له بجدية أكبر.
غازي القصيبي كتب في بداية مقاله رأي في التعليم يقول: حديثي عن التعليم اليوم لا ينصرف الى تقييم بعض جوانب نظام التعليم الحالي، وإنما يناقش فلسفة النظام مناقشة آمل أن تثير اهتمام المختصين في التربية، وأن تبدأ حواراً بناء حول منطلقات التعليم والنظام الأصلح لمواجهة تحديات التنمية.
ثلاثون عاماً وأكثر مرت ومازال هذا الحوار وغيره حبيس الأوراق ومداد الكلمات.. رحمك الله يا دكتور غازي، أخذ الزمن أعمارك وترك كلماتك وكم من كاتب سبقك على الدرب وكم منهم لا يزال عليه.