العالم كله لا ينظر إلا إلى المرأة السعودية، والأمر لا يعود لأن العالم يريد الدفاع عنها، فثمة أوطان نساؤها أولى بذب الخطر عنهن، حيث نراهن عبر شاشات التلفزيون وهن يسحلن في الشوارع، إلى جانب أن هناك أسرا تعولها نساء يعشن أوضاعا اقتصادية سيئة جدا

كنت في زيارة لبيروت الأسبوع الماضي، وذلك لتسجيل حلقة لصالح محطة الـBBC العربية، بدت الرحلة رائعة، بيروت ساكنة وهادئة على غير عادتها، أمضيت مسائي الأول في وسط بيروت (السولدير)، وقبلها مررت كعادتي لزيارة قبر الشهيد رفيق الحريري وقراءة الفاتحة، مضيت أترجل شبه وحيدة لأجلس في مقهى يعمل فيه خمسة من الجرسونات الذين لم يتوقفوا عن خدمتي، لم يكن سواي في المكان، شعرت بالحزن يأكل قلبي، هذا المكان قبل سنوات كان يعج بأطياف مختلفة من السياح، فيما تبقى هذه الليلة من نهاية شهر مايو مهذبة إلى أقصى حد، حتى بدا الفراغ يتسع أكثر مما هو مطلوب منه، وتبدأ تشعر ببعض الإزعاج من شحوب المقاهي الجميلة، من الحقيقة الحزينة التي يعرفها الطريق المعبد أكثر منا، من عزلة الشوارع المحروقة بلعنة السياسة، من الحقول التي نضجت ولم تجد من يحصد ثمارها.
وفي الصباح كنت أستعد لقدوم السيارة التي ستقلني إلى الأستوديو، استيقظت مبكراً، كنت على الموعد، تهيأت لكل الأشياء والأحداث والمذاقات، كنت بمزاج أكثر من معتدل، لم يكن ثمة شيء يجعلني في علاقة مع الخوف، كانت كل الأشياء في ذلك الصباح تنبئ بخير، وفي الأستوديو مزحت معي المذيعة اللطيفة، وسألتني إن كنتُ سأتحدث بصراحة أم لا، كأن أكشف بعض الأمور البيضاوية أو الكروية عن وطني، لأن أزيح القناع عن وجهه المليح دوماً، ابتسمت دون إرهاق وأخبرتها أن وطني ساحر ومليء بالشعراء والنزهات البرية والفرح الجماعي، وأنا لا أكشف الغطاء إلا عن الجمال، سال من فم المذيعة ألف سؤال، لكنني تعمدت أن أتجاهل قوافل أحاديثها، وانتهى التسجيل وخرجنا معاً للغداء، وقد أمضينا نحن ضيوف الحلقة وقتاً بديعاً، حيث تبادلنا الأحاديث التي تسبق الرعد والبرق، وتندرنا على كل ما يحدث في هذا العالم، وطلبنا قهوة وأبريق شاي وأوراق الميرمية بعطرها الجبلي، وتقاسمنا القصص وأسماء الكتب ومضى بنا الوقت مختلفاً وممتلئاً بالزهو، حتى بات يقترب من وصفات فنون الحوارات العذبة.
وفي المساء طلبت مني صديقتي الصحفية لميس بدر أن تلتقي بي، فرحت جداً، وكان قد مر وقت طويل لم ألتق بها وجهاً لوجه، استعددت جيداً للقائها، جاءت سريعاً إلى الفندق، أخذتني بسيارتها الأنيقة، وانطلقنا إلى مقهى على البحر، وحدنا أنا ولميس والبحر، وهناك لم يلاحقنا الضباب ولا المطر، ولا أصوات السوريين الذين اتضح في وجوههم أنهم يعانون من فراق بلادهم، أخبرتني لميس أنها تركت الصحافة واتجهت للتلفزيون، وأنها الآن تستعد لإنتاج برنامج وقد حققت نجاحاً كبيراً حينما قبلت إحدى المحطات شراءه، الأمر كله لا يهمني، لا يعنيني، هي تتحدث عن طموحاتها ومستقبلها، وأنا كل ما عليّ أن أرخي السمع لها، حتى أخرجت لميس ورقة، وقد دونت عليها أسماء لسيدات وآنسات سعوديات شهيرات على شبكات التواصل الاجتماعي، مهمتهن الدائمة والأبدية التنكيل بالوطن، صناعتهن اليومية، فطورهن الصباحي أن يظهرن كل ما هو قبيح عن السعودية، وبعضهن لجأ للتحريض بشكل فج، وكل ذلك يأتي باعتقادهن أنه يصب لمصلحة المرأة السعودية. قرأت الأسماء، تسممت، شعرت بالوجع والمغص، وأيقنت أن عليّ أن أتعلم السباب والشتم مثلما أتقن الابتسامة والترحيب بالآخرين، لكن لميس لم تكن قد شغلت نفسها بالمغص الذي حل بي، فكل ما يهمها كيفية الحصول على أرقامهن لكي تتم استضافتهن، فهن بالنسبة لبرنامجها مكسب كبير، حيث قالت لميس بالحرف الواحد: نريد منهن أن يقلن ما يكتبنه في تويتر مثلاً، عن الضغط النفسي الذي تواجهه المرأة السعودية، عن الظلم، عن عدم قدرتها على السفر إلا بمحرم، عن الانتهاكات.. عن.. عن، تنفست عميقاً، وقلت للميس إنه لا يسعدني مطلقاً أن أقوم بمساعدتها، وطلبت منها أن أعود للفندق دون أن أرتشف رشفة واحدة من القهوة الوحيدة على الطاولة التي تركتها للبحر ومضيت.
وفي الصباح كانت هناك فرصة للجلوس مع أكثر من سيدة لبنانية، في اجتماع لإحدى الصحفيات التي قدمت من الكويت، هذا الاجتماع الذي لم أكن أرغب فيه إلا من أجل نسيان ليلة لميس، جعلني أكتشف جيداً أن المرأة اللبنانية تعيش في معاناة لا يمكن وصفها، وهي تقود السيارة، وهي تملك حق الخيار في ستر جسدها أو كشفه، إنها تعمل أكثر من 12 ساعة يومياً وأحياناً أكثر، فقط لتؤمن لنفسها حق دفع أصبع روج وحذاء وقميص، وأن لبنان يعاني من عنوسة نسائه حتى تصل إلى 80 و90 بالمئة، بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، وأن المرأة اللبنانية بدأت تهاجر كما الرجل بحثاً عن الرزق، وأن الوضع لا يسمح لها بإنجاب أكثر من طفل، حيث إن وطنها يوماً بعد يوم لا يقدم لها شيئاً يذكر سوى أنه يرفع من الضرائب، وأنها تعيش طوال وقتها على أمل أن تترك وطنها لتعيش في وطن آخر، وحبذا لو كان الوطن هو السعودية!
أمور كثيرة تعاني منها المرأة العربية، ولكن العالم كله لا ينظر إلا إلى المرأة السعودية، والأمر لا يعود لأن العالم يريد الدفاع عنها، فثمة أوطان نساؤها أولى بذب الخطر عنهن، حيث نراهن عبر شاشات التلفزيون وهن يسحلن في الشوارع، إلى جانب أن هناك أسراً تعولها نساء يعشن أوضاعاً اقتصادية سيئة جداً، ويعانين من أمراض خطرة بسبب سوء الإهمال، ولكن تبقى المرأة السعودية لبعض الإعلام مادة دسمة وقيمة، فقط لأنها تجلب لمؤسساتهم المزيد من الإعلانات والجمهور المتعطش لمعرفة ما يدور في عالم المرأة السعودية، لذا، أرجوكم اتركوا المرأة السعودية في حالها، وانظروا إلى نساء أوطانكم!