في صباحاتي التدريبية في أحد المعاهد (معهد الخياطة) الذي جمعني بحرم الأستاذ أحمد عسيري، وفي السنين الأولى من العقد الثاني من عمري، قضيت فترة التدريب وأنا أتخبط في مزيج من الدهشة واللا تصديق بأن معنى الجمال والقيم، ومزيج العراقة، ووعي الشاعر والمثقف، يمكن أن تتمثل أمامي في هذا الرجل الأسطورة الذي يظهر خلف الشاشة الفضية.. أراه واقفا لا تفصلني عنه سوى بضعة أمتار.. يقف بشموخ العسيري المتشبث بتفاصيل المكان، يكسو محياه لون القمح، وتهطل من تقاسيم وجهه أغاني الرعاة، وطروق السامرين.
لم أكن أجرؤ على الإمعان في النظر إليه والسؤال ولو كان سؤالا يسيرا يبرر دهشتي؛ كيف وصل إلى هذا المكان؟ وكيف وقف مع الناس؟ كان هذا أشبه بمعجزة رأتها ابنة القرية، أن رجلا ظهر في التلفاز، وقرأت له، ثم صار يقف أمامها.
وتمر السنون، ويكبر أحمد عسيري قيمة وقدرا وثقافة لا عمرا، ويعود يظهر أمامي قبل شهر من كتابة هذا المقال، يظهر بالقامة ذاتها، التي ربت في مدارج الشعر حتى أصبحت شجرة باسقة ذات طلع مختلف مذاقه، ليس إلا لأنه تشرب الإبداع بعناية، وتعهد نفسه بمكارم العسيري الذي يسير إلى أقصى آفاق الحضارات، ولم ينس أنه قروي الانتماء، ينزع مفرداته بدلو بداهة المتمرس على فنون النزع من مشنته التي لا تقف عجلاتها ليل نهار.. يروي بها سنابل القمح ويتعهد العرعر والشث، بفيض متدفق، ثم يتركها تنمو على جبى بئره التي لا تعرف الجفاف، ولن تعرفه مهما حاول كثيب تجاهل الرموز الكبيرة، والزحف عليها، وردمها، وتحويلها إلى مكان خال من العطاء.
أحمد عسيري مدرسة صالحة لعصور سابقة، وعصور قادمة.. كانت دقائق حديث عابر معه كفيلة بأن أضيف لما عرفت وسمعت وقرأت عنه.. أضفت لما يحمل تاريخه الحافل أنه رجل لا تأخذه العزة بالشهرة، يتدفق تواضعه أينما حل، وتحفه القلوب، لا نفاقا ومجاملة، بل حبورا وسرورا.
رأيته رجل متأنيا، ومترويا، لا يتسرع في الحكم، والمضي خلف أحاديث عابرة، بل يقف كثيرا قبل أن يلقي بعصا الحديث.
كم نحن محتاجون لروح أحمد عسيري، لتكون بالقرب منا في نادينا الأدبي، وفي ملتقياتنا الثقافية، تحفنا وتحيطنا بسياجه المتين.. كم أحتاج أنا شخصيا أن أعود تلميذة أبتدئ تهجي لغة أحمد عسيري، ولا أتخطى أسوار مدرسته، إلا وقد ارتويت من مناهلها، ففيها ما يكفي من العطاء الذي حرمت منه عمرا.. فهل يحقق لي أحمد عسيري هذا الحلم، وأراه كل ذات نشاط ثقافي مشاركا وحاضرا بيننا نحن -تلامذته وإخوته- المحبين له؟