الإقصاء الدائم للفنون من حياتنا حتى بهتت، هو استجابة للقلق الكبير من رغبات فئة قولبت مفاهيم المجتمع في نسق واحد بعيدا عن التصالح مع الآخر، وبعيدا عن التقبل والإقبال على الحياة
يجهد الإنسان في هذه الحياة إلى السعي خلف رزقه وتأمينه راكضا من لهاثٍ إلى آخر، باحثا عما يريح به جسده؛ ليكمل هذه الأركان المادية وتستقيم حياته. وقد ينسى - في خضم هذا الصراع الأزلي بين الإنسان والحياة - قد ينسى أن يُؤمّن جانبه الروحي من الجفاف والجوع والخواء؛ لهذا أتت الأديان تملأ هذا الجانب وتُحييه في ظل القسوة التي قد تحدث. فالأديان السماوية بالذات تقيم علاقة تكاملية بين الجسد والروح تتجسد مثلا لدى المسلمين في الصلاة التي نمارسها خمس مراتٍ في اليوم كأقوال وأفعال تصل بالروح حدّ التسامي والتّجلي. وزاد اهتمام البشر وانجذابهم روحيا إلى الأصوات تحديدا ترنيما وغناء وأهازيج منذ الأزل لما عرف عنها من تأثير ساحر على صفاء الذهن ونقاء الروح وإدخال للسعادة عليها. وتتفاوت الأصوات التي اهتمت بها واستخدمتها البشرية وكانت خلاصتها في أصوات الترنم والغناء والتراتيل الدينية وموسيقى الأدوات المختلفة.
كان كونفوشيوس حكيم الصين الأكبر ينسب للموسيقى أفضالا اجتماعية ويعدها أداة مهمة لتحقيق الانسجام في الحياة. بينما كان كهنة معابد أبيدوس الفرعونية يُطببون مرضاهم بالترنّم والتراتيل المنغمة لاعتقادهم أنها تطرد الأرواح الشريرة التي تُسبب الأمراض. وفي ملحمة الإلياذة الأسطورية يُذكر أن ملك إيثاكا أوليس قائد حرب طروادة قد شُفي من نزف جروحه بواسطة الغناء. ويقول أفلاطون: من حزن فليستمع للأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد.
وفي المجال الاستشفائي كان العالم والفيلسوف فيثاغورس يحث تلاميذه على الاستماع للألحان الجيدة لأنها تساعد على العمل والاسترخاء والعافية. وامتد هذا الأثر حتى العصور الحديثة الذي أصبح فيه العلاج بالموسيقى والأصوات رسميا منذ بدايات القرن العشرين، وخرجت عدة مدارس ومناهج وآلات توضح فوائد الموسيقى على الاستشفاء موثقة بدراسات من مراكز ومستشفيات عالمية ومثبتة بالتجربة كالدراسة عن جامعة ميشيغان، التي خلصت إلى أن الاستماع للموسيقى المفضلة يزيد مناعة الجسم ويقلل من الأمراض (Journal of Music Therapy 3 (1993): 194-209). كذلك يشير عدد من الدراسات إلى أن الفنون والموسيقى تسهم في رفع المستوى التحصيلي والعقلي للتلاميذ ومنها دراسة دكتور لوريل ترينر أستاذ علم النفس والعلوم العصبية في جامعة McMaster 2006: أن الأطفال الذين يتلقون تعليما موسيقيا يحرزون نتائج أفضل في اختبارات الذاكرة المتعلقة بالذكاء العام مثل القراءة والذاكرة اللفظية والرياضيات.
وقد اعتاد المحاربون القدامى في مسيراتهم القتالية في مختلف العصور والحضارات أن يرفعوا أصواتهم بالغناء مرددين ما يزيد حماسهم ويقوي عزيمتهم لمواجهة الموت المحتمل وكأنهم بأصواتهم يهزمونه مبكرين وإن هزمهم، حتى إن المارشات أو الاستعراضات العسكرية التي تقيمها الدول منذ العهد العثماني حتى وقتنا الحاضر جميعها تكون على وقع موسيقى حماسية تأجج العواطف. ولنا في ذاكرتنا الطفولية القريبة شاهد في عام 1991 أثناء حرب الخليج الأولى حينما هبّت أعداد كبيرة للالتحاق بالتجنيد التطوعي، الذي فُتح وقتها للمشاركة في حماية الوطن. وكانت الجموع المتحفزة للفداء والنضال تردد هبّت هبوب الجنة وحنّا جنود الله من دون الوطن. ومما رواه لنا أجدادنا وآباؤنا أنهم أثناء عملهم في حقولهم وبنائهم لمنازلهم يتعاونون جميعا كرجلٍ واحد يحدوهم الغناء والقصائد تعزز هذا التعاون وتمسح عن جبين وقتهم التعب.
حينما دخل الخطاب الصحوي المتشدد منذ أكثر من ثلاثين عاما بين الناس ونواياهم انتزع مظاهر الحياة الفطرية والطبيعية التي جُبلت عليها النفوس، فأصبح الغناء خطيئة وتُجيش له مئات الخطب والناصحون الذين رأينا بعضهم يستلذ بتحطيم أدوات الموسيقى بتشفٍّ غريب. جُففت منابع الفنون الوليدة في مدارسنا فأُخضعت المسارح لنمط تقليدي مُمل وأصبح اليوم الدراسي خاليا من تعاطي الفنون والموسيقى وجمالياتها. والحفلات الغنائية القليلة التي تنظم خلال مواسم الصيف اختفت هي الأخرى كما حدث في بعض المدن في المملكة من غياب كامل لها.
إن التصريح الذي أدلت به الغرفة التجارية الصناعية بجدة يوم الأربعاء الماضي عن حجب الحفلات الغنائية في مهرجان جدة غير 35 الذي ينطلق في السابع من شعبان القادم لمدة 24 يوما هو مسمار آخر في نعش الفنون المخنوقة لدينا. لنملك شجاعة كافية لنعترف أن هذا الإقصاء الدائم للفنون من حياتنا حتى بهتت، هو استجابة للقلق الكبير من رغبات فئة قَولبت مفاهيم المجتمع في نسق واحد بعيدا عن التصالح مع الآخر، وبعيدا عن التقبل والإقبال على الحياة، وهزيمة موتها فينا بكل جمالياتها الفنيّة.